سالم الآلوسي.. خزانة الوثائق البغدادية

01 فبراير 2015
الآلوسي في بورتريه لـ جنان داوود
+ الخط -

عرفه البغداديون رجلاً نحيلاً، بسيط المظهر، شغوفاً بمدينته، باحثاً في زوايا التاريخ عن كل شاردة وواردة تخص ساكنيها وتقاليدهم وأحياءهم وتفاصيل حياتهم. سالم الآلوسي (1925-2014) كان شيخ المؤرخين والموثّقين العراقيين. وهب عمره لبغداد، وبقي يصارع المرض وظروف الحياة الصعبة رافضاً مغادرتها، حتى وافته المنية في أحضانها.

ربما كان لانتمائه العائلي، ولمنطقة الكرخ التي شهدت مولده الدور الأكبر في تشكيل وعيه واهتمامه بالتاريخ. فهو ابن عائلة رفدت الحياة العامة في العراق بالعديد من الأسماء دينياً وثقافياً وسياسياً.

ورغم تخرّجه من كلية الإدارة والاقتصاد عام 1952، إلا أنه اختار أن يمضي في طريق دراسة التاريخ والأرشفة، وعمل لفترة من الزمن دليلاً آثارياً في "مديرية الآثار العامة". أما بدايته المعرفية فكانت مع مجلة "سومر"؛ والتي عنيت بالتاريخ القديم لبلاد الرافدين. كما عمل سكرتيراً لتحرير مجلة "العراق" الفولكلورية في ما بعد، ولاحقاً كان الآلوسي من مؤسسي مجلة "المورد" الثقافية التراثية في العراق.

في مجال التأليف، كانت مسيرة الآلوسي حافلة بالعديد من المحطات، وكانت بوصلته دائمة الاتجاه صوب التاريخ والتراث. من بين كتاباته: "موجز دليل آثار الكوفة"، و"دليل آثار سامراء"، و"الراهب العلّامة.. ذكرى الأب أنستاس الكرملي".

وكانت للآلوسي تعليقات وتقديمات لبعض الكتب، وكان آخر ما أنتجه كتابي "اسم بغداد" و"بغداد ما قيل فيها"، في محاولة منه لتقديم إطار معرفي للهوية البغدادية التي كانت تجمع العراقيين بمختلف أطيافهم في الماضي. لكن الكتابين تحوّلا إلى ما يشبه رثاء "التبغدد" الذي تآكل وأُفرغ من مضمونه في مواجهة التريّف الذي أصاب المدنية.

الآلوسي، والذي يعد من أواخر من بقي من الرعيل الأول لآباء الثقافة العراقية المعاصرة، كان مسكوناً بهاجس هوية بغداد التي بدأت تتداعى أمام الفوضى السكانية والزحف الريفي، حتى غابت معالمها القديمة وطمست شخصيتها المعمارية الفريدة في خضم الانفجار السكاني الهائل الذي اجتاحها.

لذا سلك الألوسي طريق التوثيق حفاظاً على ما تبقى من ذاكرة مدينته التي أحبّها، وعمل في هذا الميدان منذ شبابه. وكان له دور بارز في إنشاء "معهد الوثائقيين العرب" في بغداد، وقد قاده شغفه بعلم الوثائق إلى تأليف كتابين علميين في هذا المجال هما: "الدبلوماتيك أو علم دراسة الوثائق ونقدها"، و"علم تحقيق الوثائق"، وترجم عدداً من الكتب الأجنبية الخاصة بهذا المجال.

شغل الآلوسي العديد من المناصب في الدولة العراقية. فكان أول أمين عام لـ"المركز الوطني للوثائق" في بغداد عندما تأسس عام 1962 بغرض حفظ تراث البلاد الوثائقي. وقد اختير لهذه المهمة لما عرف عنه من دقة والتزام وسعة معرفة.

تنقل بعد ذلك في مناصب عدة، من بينها الأمين العام للفرع الإقليمي العربي لـ "المجلس الدولي للوثائق"، ومعاوناً لمدير الآثار العام، ومعاوناً لمدير عام الإذاعة والتلفزيون، وعميداً لمعهد الوثائقيين العرب. كما حاضر في مادتي الفنون الإسلامية وتاريخ الخط العربي في معهد الفنون الجميلة، وترأس تحرير مجلة "الوثائق العربية".

لم يتعاط الآلوسي مع السياسة كثيراً، ولم يكن طرفاً في صراع مع أحد؛ وهو ما جعله بمنأى عن الخصومات الحادة التي ميّزت تاريخ العراق الحديث، فلم يتعرّض لـما تعرّض له غيره من رموز البلاد الثقافية من عملية "اجتثاث"، وشكّل رمزاً أجمع العراقيون على تقديره والاعتزاز بجهوده العلمية والأكاديمية. وقد شارك في جنازته فرقاء الفكر والسياسة والانتماء.

ففيما كان العالم يودّع عام 2014، ودّعت بغداد سالم الآلوسي في يوم 16 كانون الأول/ ديسمبر الماضي. لم يكن الآلوسي استثناء بين المثقفين العراقيين والعرب الذين جرت العادة ألا يتذكرهم الناس إلا بعد وفاتهم؛ فقد عاش سنواته الأخيرة رهناً للمرض والعزلة، لكنه استمر في الدراسة والبحث حتى آخر يوم في حياته، كما تقول زوجته.

دلالات
المساهمون