ساري كيوان.. الحاجة إلى القفز

30 أكتوبر 2014
من الأعمال المعروضة
+ الخط -

في إقامته الفنيّة الحاليّة بـ "محترف عاليه" في لبنان، يطارد ساري كيوان المعادن البالية. يجمعها، بحسب ما تحكي له، ثم يأتي بها إلى محترفه. محاطاً بكلّ أصوات الطبيعة والعزلة، يختار الفنّان الشّاب أن يقيم حواراً مسموعاً مع المعدن، يفضّله دون سواه، ويجد فيه صوته الداخلي.

المعادن كائنات أرضيّة أيضاً. تُستخرج ثمّ تُستهلك وتُرمى، لكنها لا تشكل نفايةً بالمعنى الدقيق، إذ إن تدويرها يعيد توظيفها في سياقاتٍ جديدة. بيكاسو كان أيضاً، وبحسب ما تروي زوجته فرنسواز جيلو في مذكّراتها، شغوفاً بالمهملات، البلاستيك والمعدن، يستحضرها ويصنع منها مشهديات أو تماثيل صاخبة بالحوارات الإنسانية. لكن المعدن لطالما شغل اهتمام فنّانين كبار، عُرفوا بأعمالهم الفذّة في هذا المجال مثل جياكوميتي، هنري مور، ديڤيد سميث، فيرا موخينا، ألكسندر كالدر، جي دي رونكور وغيرهم.

مقاربة كيوان للخردة ليست جديدة، لكنه يحاول الاستحواذ على لغة نحتيّة خاصّة، ويبدو كمن يسلك بقدمين ثابتتين. في منحوتاته، نرى إعادة تكوين أو قراءة للجسم البشري إذ يخدم مواضع حركيّة. يبدو الجسم منساقاً إلى خدمة الحالة الفيزيائية أو الرياضية التي هو فيها. وبذلك، فهو يتلاعب مستفيداً من الحريّة التي يقدّمها المعدن، فيضخِّم الأعضاء كالساق أو الذراع، فهي الأعضاء التي يثب الجسم بها أو يستقر أو يعلن من خلالها عن حركته.

هذه المقاربة، أو هذا الاستخدام للجسد بهدف الاستدلال والتركيز على وظيفة ما، انتهجه فنانون مثل مايكل أنجلو، الذي نستطيع في منحوتته الشهيرة "ديفيد"، المعروضة في فلورنسا، ملاحظة حجم اليد الكبير قياساً بباقي الجسم، وذلك للدّلالة على رمزيّة هذه اليد في هزم العملاق جالوت بحجر. وهناك جياكوميتي ورجاله المشّاؤون.

يولي كيوان اهتماماً خاصاً بظروف المادة، ويترك لها مجالاً لتحفظ بيئتها الأخيرة، المستقدمة منها. في منحوتاته، لا يصر على إبقاء العمل ضمن وحدة لونيّة أو هيئة برّاقة. إنّها أعمال تنطق بلسانين، فهي منضوية في حالتها الفنية، شكلها الحالي، وأمينة للمهملات التي أتت منها. وبعشوائيتها هذه، يترك لها الفنّان نوعاً من الكينونة الخاصّة، الداخليّة، وبالتالي كأنّما يحفظ هويتها ما قبل النهائية.

ما يميّز أعماله، هو الزوايا أو المواضع التي يترك فيها الأجساد، وهي زوايا تعبيريّة، تستفيد دائماً من الفضاء وتحاوره. الحركة في أعماله، تحيل إلى حاجة إنسانية (القفز، معاكسة الثقل، الهرب).

أعمال في المقام الأول لا تحمل بياناً سياسياً عريضاً، ولا تشي بالالتباس. غير أنّ القصّة المعلنة في كل عمل، تقلّل من أبعاده الرمزية، وتضعه في إطار درامي رقيق، يبحث في ضخّ جماليّة العمل ككل في لحظة واحدة، على حساب ديمومة هذه الجمالية، ما يهدّد لغة العمل وزمنه على المدى البعيد. منحوتات ساري كيوان تؤسّس لفنان يجيد اللعب والمجازفة في مساحة دقيقة جداً.

دلالات
المساهمون