سادية تربك الصدور وتأسر الإعلام

07 فبراير 2015

من فيلم داعش

+ الخط -
فور بث فيلم عملية القتل الرهيبة التي راح ضحيتها الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، في أفظع عمليات الإعدام التي تمارسها داعش فظاعة، سارع موقع إنترنت مصري إلى نشر الصور تحت عنوان "شاهد أولى لحظات حرق معاذ الكساسبة". في عرف الموقع وعشرات حذت حذوه، فإن الفيلم عالي التقنية سبق صحافي ومادة دسمة لاستقطاب المشاهدين، بصرف النظر عن فحواه المرعب والمهين للكرامة الإنسانية. وقد عمدت مواقع إلكترونية إلى عرض الشريط، أو مقاطع منه، في حين تنوعت طرق تناول المحطات التلفزيونية للشريط المريع، من الاعتذار عن نشره، والاكتفاء بتفسير مضمونه، إلى نشر مقتطفات منه، من دون مشهد الحرق. وتجاهلت وكالات الأنباء العالمية الفيلم بكامله، في حين نشر موقع "فوكس نيوز" الإلكتروني الفيديو بكامله، من دون حتى أي توليف، أو حذف، لمشهد الحرق. وقرر بعض جهابذة التوك شو المصري، في خضم حملاتهم على التيارات الإسلامية، عرض فيلم القتل، باعتباره الدليل القاطع على إجرام هذه التيارات، ولبث المزيد من الحقد ضدها.
تمنع قواعد العمل الصحافية التي تتبناها هيئة التلفزيون والإذاعة البريطانية (بي بي سي) بث مشاهد عنف فظيعة، وتعتبر ذلك يحمل إهانة للكرامة الإنسانية، وتعديا على خصوصية ضحايا أعمال العنف هذه، وعائلاتهم وأحبائهم والمجموعات التي ينتمون إليها. كذلك، تمنع إرشادات العمل الصحافي في المؤسسة العريقة عرض صور العنف، أو أية مواقف تدعو إلى العنف، أو تحرض عليه، من منطلق عدم تقديم منصة إعلامية لهذه الدعوات بما يضمن لها انتشاراً واسعاً.
قد يقول بعضهم إن ما تفرضه "بي بي سي" على صحافييها لا ينطبق بالضرورة على الوسائل الإعلامية كلها. يدافع بعضهم عن الحق بالمعرفة، ومتابعة أخبار هذه الجماعات، من باب فضح انتهاكاتها، في حين ينتقد آخرون قلة الصور من مناطق، لم تعد في قلب اهتمام وسائل الإعلام العالمية، حيث تدور أعمال عنف مروعة في ظل تعتيم، أو لا مبالاة إعلامية. ويرى بعض
آخر أن قرار وسائل الإعلام نشر شريط الفيديو، أو عدمه، لا يلغيه، إذ في وسع أي متصفح للإنترنت أن يشاهد الشريط على قناة اليوتيوب التي لم تمنع بثه.
دعت لجنة حماية الصحافيين الوسائل الإعلامية إلى تفادي تحولها إلى منصاتٍ لتوزيع المواد التي يصدرها الإرهابيون، مما من شأنه المساهمة في إشاعة الوحشية. وفي ما يتعدى إشاعة الوحشية، تعمل أشرطة الفيديو عالية التقنية وذات الإخراج السينمائي، المتقن على الطريقة الهوليوودية، على إحداث حالة تطبيع بيننا وبين العنف المتصاعد تدريجياً، من جز الرقاب إلى الرمي من الأسطح إلى الرجم بالحجارة إلى الإعدام بالرصاص، وآخرها أكثرها فظاعة الحرق الحي للضحية المربوطة داخل قفص.
تثير الأشرطة مشاعر مختلطة، فهي، من جهة، تثير فضول الراغبين في اختبار احتكاكهم بهذا القدر الهائل من العنف، من دون أن يكونوا مؤيدين له، وهي رغبة في استقصاء الرغبات الأكثر حيوانيةً في داخلنا، حيث تتم مشاهدة إخضاع الجسد لأنواع التعذيب في سادية متشفية. في الجهة المقابلة، تثير مجرد رواية وقائع عملية القتل، من دون مشاهدة تفاصيلها، مشاعر الغثيان، لمجرد فكرة معاناة الضحية، وتشفي القاتل في سادية بلا حدود. تشكل الأشرطة مادة دسمة، لتمجيد العنف، يخشى أنها تشكل جاذبية خاصة للشبان، ووسيلة فاعلة في تجنيد هؤلاء، حيث يدور جدال ما إذا كانت هذه المواد كافية وحدها، لاستقطاب هؤلاء الشبان، أو أن لعملية تحول هؤلاء إلى "جهاديين" جذورها في المسار الشخصي لهؤلاء.
في كل الحالات، ينجح منتجو أفلام الرعب الواقعية هذه في إثارة هستيريا إعلامية، تجعل من وسائل الإعلام رهينة لآخر إصدارات الجماعة الإرهابية، تناقش تفاصيل هذه الأفلام وتستشرف الرسائل من ورائها. كما نجحت في إثارة حالة من الرعب، لدى المشاهد، أو المتابع، وهو رعب ممزوج بالمهانة، لإمعان إرهابيي داعش في إذلال الضحية، وتشويهها إنسانياً، واللهو بجسدها في متعة سادية.
نقف مروعين أمام هذا الإرهاب العابر للحدود، عبر أشرطة الفيديو المقذعة، ونتساءل كيف أمكن لهؤلاء الوصول إلى هذا الدرك الإنساني. ولعل إمعان إرهابيي داعش في قتل الرجال المتهمين بالمثلية الجنسية، والنساء المتهمات بممارسة الدعارة، في إخراج سينمائي متنوع وخاص، (الرمي من السطوح في الحالة الأولى والرجم في الثانية)، مثالاً على قدرة مخيلة هؤلاء المريضة في استنباط أشكال القتل السادية والتفنن في عرضها، في صور مثيرة للإعلام.
مع شريط الجريمة المريعة لحرق الطيار الأردني، تترسخ صورة نمطية باتت أكثر رواجاً في الغرب، مع كل جريمة يرتكبها إرهابيو داعش، عن علاقة المسلمين بالعنف والسادية. ولعل الصورة المرعبة، فائقة الإتقان، في شرائط داعش هي الوسيلة الفضلى للتعتيم على صورة أقل إتقاناً، لكنها ليست أقل سادية، في قتل النظام السوري اليومي مواطنيه في طرق متفننة.
... وفي انتظار الفيلم الجديد، نتساءل ما القادم؟ ما الأعظم؟











A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.