ساحات الحمام: فسحة سكينة في قلب الصخب

03 يوليو 2015
فرح الساحات (Getty)
+ الخط -
تدلّ رسومات مصر القديمة على وجود الحمام منذ أكثر من أربعة آلاف عام قبل الميلاد كرمز للجمال والوداعة، كما تدلّ آثار الحضارات في بلاد الشرق الأقصى أيضاً على مكانته الرفيعة في الحياة اليومية والفنون، إذ يزيّن رسوماتها الرائعة، ويحضر بقوّة في أساطير الحبّ والعشق، أما في بلاد الرافدين فقد وجدت الحمامة مرسومة وفي فمها غصن زيتون، في مشهد مقتبس من قصة النبي نوح، الذي بعدما نجا بالفلك، أرسل الغراب ليستطلع اليابسة ويعرف إن هدأ الطوفان، فلم يعد، فأرسل الحمامة التي عادت بغصن شجر (بعض الروايات الدينية تقول إنه زيتون) وعودة الحمامة بغصن زيتون دلّت على انحسار الطوفان وظهور اليابسة، فاستبشر نوح وقومه، وصار ذاك الطائر رمز البشائر والسلام والأمان وفرج الهموم.
تقول الأبحاث العلمية الحديثة إن هذا الطائر سكن الأرض منذ زمن بعيد جداً، وذلك لوجود مستحاثاته في بلاد الشرق، وتقول الأساطير الأولى التي نسجها الإنسان، كي يواجه فيها الفناء، إنّ الحمام رمز العشق والوله بين الذكر والأنثى، ورمز الوفاء العميق لهذا العشق، وتحمّله أيضاً بعض القداسة، إذ تقول أسطورة شرقية إنه طائر الربّ الأوّل، وقد خلقه روحاً تحاكي روح الإنسان وتفهمه، لكنّها لا تنطق إلا بالهديل.
استخدم الإنسان هذا الطائر الذكي كمراسل حقيقي يبعث معه رسائل لبلاد بعيدة، وقد أضاف هذا قيمة أكبر لوجوده في تاريخ حياة الإنسان في الشرق، وليس الحمام الزاجل رسولاً فقط، بل هناك حمام الزينة، وحمام آخر دجّنه البشر لأجل بيضه ولحمه... كما درج المحتفلون على إطلاقه في مناسباتهم السعيدة، تحديداً الأعراس.
يتميز هذا الطائر بقدرته على التأقلم مع التغيرات المناخية وبسهولة تربيته، إذ يكفي الاعتناء بالكبار منه لأنه هو قادر على الاعتناء الكامل بصغاره، من خلال علاقات أسرية حقيقية تكمن بالتزام الوالدين الحبيبين بتربية صغارهما.
لكلّ هذا ما زال الحمام يعيش ويكثر في المدن والساحات التي توزع له الألفة والودّ، ويوزّع لها الطمأنينة والسلام، فيطير حين تناديه دفعة واحدة طيرانا يجعل روحك تطير معه، ليحلق في السماء كموج أبيض للسلام والفرح.

في أوروبا

عرفت كثير من المدن في العالم وجود الحمام فيها، وبكثرة ليعطي بأجنحته وهديله، روحاً جديدة لساحاتها، وطعماً آخر لسمائها، ولتصبح ظاهرة الساحات والحمام ظاهرة مميزة للانسجام الأجمل بين الأمكنة والناس والأجنحة، وبسبب ألفة هذا الطائر وجمال حضوره، يقبل الناس على إطعامه والتودّد له، والتقاط الصور معه، وقد كانت ساحات لندن مثلاً تعج بالآلاف من أزواج الحمام، ولكن وفي عام 2003 أصدر عمدة لندن قانوناً بعدم إطعام الحمام، وذلك لما سبّبه روث هذا الحمام من أذى للبيئة، ومن تلف لتمثال نيكسون فيها.
وفي ساحات فينيسيا وميلانو، كان الحمام يغطي الأرض، ويفرشها، أما حين يطير فيجعل الهواء يرفرف معه، ولكن أيضاً وبسبب كثرة الأعداد فقد منع في فينيسيا وثم ميلانو إطعام الحمام وتربيته، وهذا قلّل كثيراً من حضوره البهيّ.
لم تزل ساحة باريس تحتفي بوجود الحمام فيها، كما أن ساحات فرانكفورت لم تزل ترعى الحمام وتربّي حبّه للناس.

في العالم العربي

أما في ليبيا فقد عاد الحمام لساحة الشهداء في عام 2013 بعد غياب طويل جداً عنها، ولعله عاد مع بدايات الحياة الجديدة في هذا البلد.
أما أكبر تجمع للحمام فربما يكون في ساحات الحرم الشريف في مكّة، والتي يزيد عددها عن أربعة ملايين زوج من الحمام، ترعاها إدارة الحرم الشريف، والعدد الهائل من الناس الذين يطوفون حول مكة ويطعمون حمام الحرم الشريف فيها، ويربط عدد كبير من المسلمين وجود الحمام بمفهوم ديني إذ يعتبرونه مقدّساً، مثل قدسية المكان ومتآخياً مع حضور الحجاج وكأنه رديف طبيعي لهم.

إقرأ أيضاً: البيروتيون أيضاً يحيون "منتصف شعبان"


أما في دمشق، أمّ المدن وسيدة الحضارات الأولى، فللحمام مع مسجدها الأموي حكايات وأساطير ساحرة، مثل سحر هذه المدينة النادر في التاريخ.
وجد الحمام في الجامع الأموي منذ وجوده، وكأنه عاش معه، وحمى استمراريته وحمى تعاقب الحضارات التي مرت عليه، إذ وجد هذا الجامع من عام 1200 قبل الميلاد وكان معبدا آرامياً، ليتحوّل بعدها لمعبد الإله جوبتير، ثم إلى كنيسة مع دخول الرومان إلى دمشق، وثم إلى مسجد حين صلّى خالد بن الوليد بالقرب منه، وليكمل شكله الحالي على يد الوليد بن عبد الملك، وليرافق الحمام كلّ هذه التحولات التي لا يوجد مكان في العالم قد مرّ بها، وليكون الحمام شاهدا على تسامح الإنسان وجمال روحه.
يعيش أربعة عشر ألف طائر في تجاويف جدران الجامع الأموي، ترعاها قلوب المصلين فيه، وحبهم لها، وتحتفي بها دمشق مثلما تحتفي بجامعها.
كلما علا الآذان من الجامع الأموي، تطير هذه الحمامات بسبب الصوت وتصطفّ بشكل ساحر على أسوار الجامع، لتعطي لصوت الله في سمائه منظراً قلما تشاهده في مكان آخر، وما زال الكثير من سكان دمشق يعتبرون وجود الحمام رمز البركَة، ويقتنعون أن هذا الحمام يحجّ سنويا لمكّة، ويصل إلى الحرم الشريف ثم يعود، وهذا ما يربط وجوده بقدسية الجامع الأموي إذ يراه الناس رمزاً للطهر والنقاء، اللذين يسكنان المكان، ويعتبرون أنّ الحمائم مخلوقات تسبّح اسم خالقها وتحمده، كما يقول أهل الشام إن هذا الحمام إذا أجبر على مغادرة المسجد، فإنه يموت في اليوم التالي، وإنه في الأيام الأخيرة من شهر رمضان، يطير الحمام بشكل غريب بعد كلّ آذان، ليصل موقع دفن يوحنا المعمدان، والحسن بن علي، ثم يعود إلى ساحة المسجد أو صحن المسجد كما يسموّنه.
يشتري أهل الشام الطعام للحمام من مالهم، كلما جاؤوا إلى المسجد، ويطعمونه بكلّ حبّ كي يبقى يحرس مسجدهم وساحته.
اليوم، وحين استباحت الطائرات سماء دمشق وسلامها، وعربدت الدبابات في شوارعها وحاراتها سيكون حمام المسجد الأموي فيها مثل ناسها، يحمون هذه المدينة ويحرسون تاريخها الذي لن يستطيع أحد محوه، لا بشره أو حجره أو طيوره.
المساهمون