زيارة إلى السجن

20 نوفمبر 2014
لا أستطيع أن أخبره بكل ما أريد أثناء الزيارة(Getty)
+ الخط -

وصلت إلى تلك البوابة الكئيبة، وهناك، تماماً قبالتها، أو، لأكون أكثر دقة و"مصداقية"، من على بعد أمتار قليلة من بوابتهم التي يغلقونها عليهم، ليست الـ(هم) لهم، بل نحاول أن تعود على أولئك المحرومين من الشمس خلف البوابة، رأيت تجمعات كثيرة لأهالي المعتقلين، منهم مَن هو حديث العهد مع هذه الزيارة، تنبئك عيناه المتسائلة عن كل ما يراه وارتباكه وأسئلته الكثيرة والقلق الذي يقفز من قسمات وجهه بذلك. ومنهم مَن يحاول إرشاد القادمين الجدد أو تقديم العون لهم أو التقاط بعض الأوراق التي تلقى عليه من طابور المعتقلين المارين، فيها هواتف ذويهم للاتصال بهم وإخبارهم عن أماكن احتجازهم.

وما أن تدخل من البوابة، حتى تستقبلك "الحيوانات الناطقة"، وهو لفظ أنثروبولوجي أطلق على البشر، كنت أعجب حين أقرأه، ولكنه قفز إلى ذهني تلقائياً حين رأيت الكائنات الناطقة القابعة خلف البوابة، من ضباط ومأموري السجن، و"شغيلة" حكومة، المشتركين جميعاً في وظيفة امتهان كل ما هو آدمي، بداية من عملية التفتيش الذاتي وتفتيش الأدوات، وانتهاءً بنهب ما معك من نقود وأدوات. عبرنا بوابة التفتيش إلى بوابة الدخول أو بوابة الحكايات، سمها كما شئت، فوقعت عيناي على رجل "غلبان" تخطى السبعين، ابتسم لي في طيبة وسألني: "انتي داخلة لمين يا بنتي؟"، رققت لحاله ودار بيننا حديث عن ولديه الذي رأى جثمان أحدهما في التلفاز أثناء أحداث مجزرة رابعة العدوية، ولم يجد جثمانه حتى الآن، والآخر قابع في سجن استقبال طرة، متهما بأحداث مسجد الفتح. بهرتني ابتسامته البسيطة وتماسكه، لا سيما حين أنهى حديثه معي: "يا بنتي الحي أبقى من الميت".

بدأت أفكاري تتجمع، استحضرت صورة أخي الذي أرسل في طلبي ليخبرني بشيء مهم بعدما أرسلت له رسالة خبأتها بعناية في طيات علبة مناديل لأخبره فيها بما أريد، حيث إنني لا أستطيع أن أخبره بكل ما أريد أثناء الزيارة، مراعاة لاندساس "المخبرين" في باحة الزيارة بين الأهالي.

خرجت من أفكاري على صوت ضوضاء في الجوار، سيارة ترحيلات تقلّ عدداً من المعتقلين أتوا بهم إلى السجن للتو، ليبدأ ذووهم رحلة بحث جديدة عنهم. رأيت مجموعة من الأوراق تتقاذف في اتجاهي من بعض منهم. اقتربت لالتقاط ما يمكنني التقاطه من أوراق وخبأتها بسرعة في طيات الملابس خوفاً من أن أُضبط بالأوراق فيكون مصير أصحابها التحويل إلى زنازين التأديب، وهي عبارة عن زنازنين انفرادية يُلقى فيها المعتقل وتُمنع عنه الزيارة كما كل شيء.. نعم كل شيء.

في هذه الزيارة، ترى كتلتين من الناس، كتلة تتعايش مع واقع السجن، وكأنها مقيمة في السجن حتى أمد بعيد، تجلس منكبّة على موائد الطعام والشراب، بل والتسالي في بعض الأحيان، كأنها ستكمل بقية حياتها في السجن، هؤلاء هم "الجنائيين"، والذين يقومون أحيانا بالتمجيد والتعظيم لمَن ظلمك وظلمهم فقط ليكدّروا الكتلة الأخرى الموجودة في جوارهم (من السياسيين).

وبعد الدخول من البوابة الرئيسية للسجن، تقابلك وصلة تفتيش أخرى، بعد تلك التي لا تُذكر ولكنها تُعاد، حيث المفتشون الذين يدخلون أيديهم القذرة وسط قدور الطعام ويحركونها وكأنك تخفي في داخلها ترسانة أسلحة، ويفتشونك أنت شخصياً وكأنهم يقومون بعملية اغتصاب، غير متورعين عن أن يصفعوك على وجهك إنْ تحدثت أو علّقت.

وفي طريق العودة من الزيارة التي لا تطفئ شوقاً، نقوم بفتح الأوراق التي التقطناها من الأرض.

ومن المفارقات العجيبة التي يمكن أن تحدث حين تقوم بالاتصال بأحد الأرقام التي على الورق، لتبلغ عن وجود شخص في السجن، أن يخبرك أهله أنهم قد صلّوا عليه صلاة الغائب منذ أشهر.

هذه إطلالة صغيرة من فتحة صغيرة في جدار السجن الكبير.

المساهمون