30 أكتوبر 2024
زوجة ثانية
جلست أمامي تبكي. أعرف ظروفها جيداً، من فقرٍ مدقع تعيشه، إلى عائلتها الكثيرة العدد، مروراً ببطالة زوجها المستمرة منذ حصار غزة، وعدم استطاعته الخروج إلى العمل في البناء داخل "الخط الأخضر"، أي المناطق التي تحتلها إسرائيل وتقيم عليها دولتها.
بكت أكثر، وهي تقول: لم أجد حلاً سوى ذلك. استفسرت منها عن هذا الحل الذي اعتقدت أنه سيكون المفتاح السحري لكل مشكلاتها، أجابتني: تخيلي كيف استطعت أن أحتمل أن تشاركني امرأة أخرى في زوجي. طلبتُ منه أن يتزوج بأخرى، بشرط أن تكون موظفة وراتبها كبير، فوقع اختياره على معلمةٍ مطلقةٍ، تعمل في مدرسة لوكالة الغوث "أونروا"، وأنت تعرفين معنى "معلمة الوكالة"، كما يطلق عليها. اتفق معها على الزواج، بشرط أن تمنحه راتباً شهرياً يمنحه لي في المقابل، لأنفق منه على أولادنا الثمانية، واشترت له سيارة أجرة، ليعمل عليها سائقاً، كي لا يتهامس الناس بأنها تزوجت عاطلا تزوجها من أجل المال، على الرغم من أن هذه الحقيقة لم تخف على أحد، وأصبحت "موضة" في غزة. استمر في الأشهر الأولى لزواجه، يزورني مرة أسبوعياً، ويعطيني مبلغاً. ورضيت بهذا الوضع، لأننا استنفدنا كل الطرق سابقاً، لنؤمن قوت أولادنا، حتى وصلنا إلى هذا الحل.
صمتتْ قليلاً، فاعتقدتُ أن مأساتها انتهت عند هذا الاتفاق، لكنها استأنفت البكاء والحديث، وقالت: استأثرت زوجته الجديدة به، واستطاعت أن تجعله ينساني، وينسى أولادنا، ويترك البيت نهائياً. وهكذا، لم أَجن من الصفقة سوى خسارة زوجي.
أدركتُ حينها أَن "كيد النساء" أفشل الصفقة، وسرحت بخيالي، واستذكرت قصصاً كثيرةً تماثل هذه القصة، وتعكس الوضع المأساوي الذي تعيشه أُسر كثيرة في غزة. معلمة في مدرسة "أونروا" يعني موظفة تحصل على راتب كبير، وبالدولار، قياساً لمستوى المعيشة المتدني في غزة التي يعيش أزيد من نصف سكانها، (عددهم نحو مليوني نسمة)، تحت خط الفقر، وأكثر من مليون منهم يعتمدون على المساعدات الإغاثية، ومعدل دخل الفرد اليومي دولاران. بالتالي، هي "زوجة لقطة"، كما يقولون، بغض النظر عن مواصفاتها الأخرى. وعلى ذلك، أصبحت معلمة "أونروا" حلم كل خريج جامعي، يعاني من البطالة وينوي الزواج، وأصبحت، أيضاً، حلا لمشكلات بعض الأسر، حيث يلجأ أزواجٌ للزواج بمطلقة، أو أرملة، أو من فاتها قطار الزواج، وتعمل معلمة في "أونروا".
وقد رصدت إحصاءات جديدة صادرة عن المحاكم الشرعية في غزة زيادةً ملحوظةً في نسبة الزواج الثاني في غزة، وإنْ تعدّدت الأسباب، أهمها البحث عن زوجة موظفة، أو ثرية، لتساعد الزوج في الإنفاق على زوجته الأولى وأولادهما، وباتفاق مسبق مع الزوجة الأولى.
مشكلاتٌ كثيرة مازال يتفتق عنها "ذهن" الحصار، بدأت تنخر في المجتمع الفلسطيني، وتعيدُه إلى الوراء، وتقلب الموازين، وتنشر أمراضاً اجتماعية لم تكن معروفةً في مجتمعٍ، يتمسك بالعادات والتقاليد. الأهم أن ظاهرة الزوجة الثانية ليس سببها الدين، وأن الإسلام دين تعدد الزوجات، كما قد يفهم بعضهم، حين يعيدون هذه الظاهرة إلى التشدد الديني في قطاع غزة.
ليست الزوجة الثانية حلاً لما نعانيه في غزة من بطالة وفقر، هي من مسكنات الألم، ويجب البحث عن حلولٍ جذريةٍ لاستئصال المرض، مثل إعادة فتح المعابر لإدخال المواد الخام ومواد البناء. وبالتالي، تشغيل القطاع الصناعي للحد من ظاهرة البطالة، حيث آلاف العمال في بيوتهم، ومثلهم آلافٌ من خريجي الجامعات.