يجتهد الباحث والأكاديمي زهير توفيق (1957)، في تقديم رؤيته للنقد الفلسفي الذي يراه يتعلّق – من حيث المبدأ – بنقد الواقع، وخطاباته الأيديولوجية، كخطابات هيمنة ومصالح.
في حين يقود النقد الفلسفي - في حركته الجدلية - الفهم إلى تغيير الرؤية الكلّية؛ بمعنى النظر العقلي في الواقع لإزالة "ظاهر الحقيقة"، ومتابعة عمله في ما دون الواقع السائد، بهدف الوصول إلى واقع معقلن، ومن هذه النقطة - الواقع المعقول - يعود النقد الفلسفي صعوداً إلى العقل مرة أخرى لاكتشاف مستواه الواقعي خلف التجريد والتعالي.
ويبحث توفيق في كتابه "النقد الفلسفيّ: من الإصلاح إلى التغيير ومن النقد إلى التقويض"، الصادر مؤخراً عن "الآن ناشرون وموزعون"، في طبيعة المنظومات الفكريّة العربيّة، التي انحدرت إلى مستويات مدرسيّة، كالماركسيّة والليبراليّة، والليبراليّة الماركسية، وغيرها من المناهج الفلسفيّة، من دون وصولها إلى تشكيل نظرية نقدية فلسفية، مقدماً وصفةً لإنتاج مركّب نقديّ شامل تتكوّن من النقد المعرفي الكانطي، والاجتماعي، والماركسي، والقيميّ النيتشويّ، ومدرسة فرانكفورت، "شرط تخصيبها" بالمعطيات العربيّة المعاصرة.
ويخلص تبعاً لذلك إلى وجوب البدء بنقد الاستبداد بوصفه أهم مدخلات التخلّف، بعيداً عن الحيل العقلية والسياسية، محدّداً مهمات النقد الفلسفي من نقد المرجعيات الأصليّة والمستعارة إلى نقد خطاباتها في المجتمعات العربيّة.
وقبل دخوله العمل يرمي توفيق سؤاله: "لكن أي نقد أو فلسفة نريد؟"، الفلسفة الوضعية؟ أم الاتجاه السلفي التقليدي؟ الأولى، يعتبرها العامل المعيق للنقد والتغيير. أما الثانية فيقول فيها: "انقلبت عنفاً معنوياً ومادياً ضد الأنا والآخر"؛ لذا يقترح بديلاً النقدَ الفلسفيَّ الباحث عن تشكيل نموذج معياري لنقد الخطابات والتطبيقات المعنية بالتغيير الشامل.
أما ممارسات المفكّر العربي، فيوجزها توفيق في عمله، والتي تمثّلت بانغماسه في الملاءمة بين المتناقضات لعدم قدرته على الحسم، فيما تمثّلت أقصى درجات فاعليته لتكييف وتأويل المعطى الجديد، في عمليات خجولة لا ترقى لمرتبة النقد الفلسفي، إضافة إلى أن السجالات في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين قامت بعكس ثقة مفرطة بالذات التراثية والوثوقية، في حين تغلّب العقل النصيّ التقليدي على الشك والتفكير النقدي عند الرواد الأوائل، كعلي عبد الرازق وطه حسين وقاسم أمين.
ويضع المؤلف هنا كتابات عبدالله العروي الأولى كنقطة فاصلة في مسيرة النقد الفلسفيّ العربيّ، حيث شرع النقد الفلسفي حينها لنقد الواقع والتراث والحداثة وما بعد الحداثة.
يؤشر توفيق إلى العوامل التي أدّت إلى عدم وصول المفكر العربي في عصر النهضة (القرن التاسع عشر)، إلى نقد معطيات الحداثة، لعدة أسباب؛ منها ضعف الفلسفة أو غيابها، إنتاجاً وترجمة وكوجهة نظر كلّية، وثانياً كون نقد المنظومة "الحداثة الليبرالية" هو انتقاص من جدارتها، وكفاءة مفاهيمها الإجرائيّة، لذا وجد المفكر العربي - كما يقول المؤلف - نفسه كمبشّر وداعية لاستكمال نواقص المنظومة المستعارة وسدّ ثغراتها وتسويقها للعامة، في حين كانت النخبة المأخوذة بالمشروع الحداثي الليبرالي تدفع إلى تبنّي هذه المنظومة للتحرك إلى الأمام، لا التوقف للتأمل في بنيتها التكوينية ومشكلاتها المعرفية.
يضع المؤلف هنا شرطاً لاستقامة النقد العربي من خلال فلسفة أبستمولوجيّة تركيبية ليكون نقداً فلسفياً قادراً على تقويض البنية المعرفية القائمة، والانخراط بالسياسة لنقض البنى الاجتماعية، في حين يطلق حكمه عليه - النقد الفلسفي - بأنه راكم تجربة نقدية تركيبية بعيدة المدى فرضت عليه إعادة النظر في حصيلته المعرفية ليتحوّل إلى مرحلة نقد النقد من خلال تحويل أعمال محمد أركون ومحمد عابد الجابري وهشام شرابي وعبدالله العروي وناصيف نصار من مشاريع نقدية إلى موضوعات نقدية.
يربط الباحث النقد الفلسفي بالتغيير، من خلال طرحه - النقد الفلسفيّ - كمدخل للتغيير واستعادة الفلسفة وتفعيلها وبناء مشروع مستقبلي يحقق الكفاية المعرفية والأمن الثقافي، بديلاً عن نقد الوضع السائد أو ما يسميه الباحث "النقد المجاني" الذي تمثل في نقد سياسي شعبوي يفتقر إلى قاعدة فلسفية متماسكة، أو نقد أيديولوجيّ مجرّد يفتقر إلى قاعدة اجتماعية تمنحه الواقعية.
مع استدراكه أن النقد الفلسفي لا معنى له بعيداً عن الأفراد، لكن من دون النظر لأفراد المجتمع كموضوعات مصمّتة لا تدرك ذاتها ويتطلب العمل من أجلها شلّ إرادتها لحماية مشروع النخبة من التشويش، في المقابل من دون القول أيضاً بأن الأفراد غايات وذوات ناضجة.
"لقد اتخذ النقد العربي في هذا السياق أسماء واتجاهات معرفية مختلفة؛ كالنقد الحضاري والثقافي والحداثي" لمقاربة الأزمة المجتمعية الشاملة لمجتمع يصفه هنا الباحث بأنه يتسم بالأبوية والتخلف والتبعية والتقليد والسلفية والاستبداد والتلفيقية والاستهلاكية، ونتيجة لذلك تعدّدت وسائل التغيير في الفكر العربي، كالثورة الثقافية عند عبدالله العروي، والسياسية عند مهدي عامل، والإصلاح الديني عند الإسلاميين، في حين تحوّل التغيير إلى مقولة فكرية أو ممارسة سياسية غير واعية لذاتها واستبدلت الفلسفة بالأيديولوجيا. مقترحاً من أجل تمهيد الطريق فكرياً وسياسياً للتغيير، تفكيك مقولات الدوائر المحافظة وكشف أسباب رفضها للتغيير والصراع.
ويرى الكاتب أن عمله هذا يقدّم "عرضاً تحليلياً لطبيعة النقد الفلسفي، وعلاقته بمشروع التغيير، رابطاً مشروع التغيير أو ما يسمى بالمشروع النهضوي أو المشروع الحضاري العربي في أحد مفاصله بغياب النقد الفلسفي كقاعدة معرفيّة لا بدَّ منها لحماية المشروع النهضويّ من عوائقه المعرفيّة والاجتماعية التي ألمّت به، كالانتقائية والتلفيق والتجريبيّة، والنماذج القياسية القديمة.