يؤمن الجزائريون بأن لا مجال للخلاص من مرض السرطان، فهو ما أن يصيب أحداً إلّا ويوصله إلى المقبرة بالضرورة. لذلك يُسمّونه، مثل غيرهم من الشعوب العربية: "المرض الخبيث"، ويضيفون إليه تسميات خاصة: "الخنزير"، "ذاك الشي عافاك الله". وقد كرّس هذا الاعتقاد لديهم أنّ المستشفيات الجزائريّة، التّي تستقبل أكثر من 40 ألف مصاب بالسرطان سنوياً لا تتوفر إلا على إمكانيات بسيطة، كما أنّ هناك أنواعاً من السرطان لا مستشفيات تعالجها، مثل أنواع السرطان التي تصيب الأطفال.
من بين أساليب التعامل مع المصاب، التّي كرستها عقيدة الجزائريين بـ"خبث" هذا المرض، أنّ قطاعاً واسعاً منهم يلجأ إلى إخفاء الحقيقة عنه، وإقناعه بأنّه مصاب بمرض من الأمراض التي يمكن علاجها، إلّا إذا كان متعلماً ويعرف طبيعة الأدوية التّي يتناولها وأماكن العلاج التي يقصدها.
فهل السرطان قدر محتوم لا مهرب منه ولا فكاك؟ تقول الشابة زهرة عريبي (من مواليد 1982)، لـ"العربي الجديد"، إنّها علمت ببوادر إصابتها بسرطان الحنجرة عام 2003. وخافت مثل كلّ البشر، في البداية: "عزلت نفسي عن محيطي وتخلّيت عن أشغالي، ودخلت في أحاديث عميقة مع النفس يحكمها سؤال: هل قدرنا أن يقتلنا السرطان حكماً؟ أم أنّ استسلامنا له وانهزامنا أمامه ويأسنا من الشفاء منه هو الذي يفعل ذلك؟".
تواصل: "فهمت مبكراً أنّني مطالبة بأن أقنع نفسي بأن تؤمن بإمكانية الشفاء، وأنّ هذا المرض ما هو إلا ضيف غير مرغوب فيه داخل جسدي، ولا بدّ من إرغامه على الخروج عاجلاً أم آجلاً".
تواصل حديثها لـ"العربي الجديد" بأنّ ثمّة أنواع سرطان اجتماعيّة تمنح للسرطان الجسدي فرصة أكبر للاستفحال والتمكّن من المصاب به في الدول المسماة بـ"دول العالم الثالث". تشرح فكرتها بالقول: "ثمّة طرق خاطئة للتضامن مع المصاب. فعوضاً عن حثّه على المقاومة والتمسك بالحياة، يجري حثّه على الاستعداد للآخرة ولقاء الله، ولئن كان هذا حقاً بالنسبة لنا نحن المؤمنين نعترف به ولا ننكره، فإنّه خاطئ منهجياً ونفسياً، لأنّه يُؤدي بالمصاب إلى الانهيار والاستسلام. وإذا أضفنا قلّة التحفّظ أمامه في الحديث عمّن أصيبوا بالمرض وماتوا بسببه، مع نبرة الشفقة والبكاء، فإنّ الأمر يصبح في حكم التعذيب المبرمج".
تسأل زهرة عريبي: "متى نصل إلى مرحلة نملك فيها الثقافة الصحيّة، التي تحصّننا من الإصابة بالسرطان، من خلال امتلاك ثقافة غذائية صحية؟ كذلك، متى إذا وقعت الإصابة، نملك الطريقة السليمة للتعامل نفسياً مع المصاب، فلا نكون عوناً للمرض عليه؟".
تقول زهرة إنّها وجدت نفسها تتحدّى، في الوقت نفسه، السرطان والمجتمع الذي لا يُحسن التعامل مع المصاب بالمرض فيُبكيه ويبكي عليه ويعدّه للقبر عوضاً عن إعداده ليستعيد إيمانه بالحياة. وتشير إلى فلسفة جديرة بالإعجاب: "قلت لنفسي إنّه عوضاً عن المكوث في السرير وتلقي باقات الزهور، عليّ أن أغادره وأزرع الزهور بنفسي". بالإضافة إلى الخلفية النفسية لهذا الخيار، فثمة خلفية أخرى جعلت زهرة تتوجه للاستثمار في الزهور هي أنّها حفيدة لجدّ جزائري عمل بستانياً في فرنسا خلال سبعينيات القرن العشرين، وهي النزعة التّي ورثتها عنه أمها أيضاً.
كذلك، فإنّ زهرة خريجة معهد التكوين المهني في اختصاص البستنة. تقول: "مقاومتي لمرض السرطان برعاية الزهور لم تكن مسلحة بحبّي لها وشغفي بها وميلي إليها فقط، بل كانت مسلّحة بالعلم والمعرفة أيضاً. أنا أعرف طبيعة التربة التي تنمو فيها الزهرة وكمية الماء التي تحتاج إليها، ودرجة الحرارة التي تناسبها، وكيف ومتى أزرعها".
فهم إخوة زهرة مرادها من زراعة الأزهار، فلم يتخلّفوا عن الانخراط معها في المسعى، الذي بدأ ببيت زراعي بلاستيكي لا تتجاوز مساحته عشرين متراً مربعاً، ليتوسّع بعد فترة وجيزة إلى 5000 متر مربّع، وانضمام نخبة من العمّال المساعدين إلى العائلة.
تقول: "كنت أرى السرطان يبتعد عن حنجرتي كلّما تحدثت عن المشروع مع إخوتي وعمّالي ومحيطي الذي يملك رصيداً تاريخياً في زراعة الحبوب والخضار والفواكه، إذ إنّ منطقة مجّانة، التّي أنتمي إليها (في ولاية برج بوعريريج، شرقي الجزائر)، تُعدّ من أخصب الأماكن في الشرق الجزائري، لذلك فقد كانت محلّ أطماع المزارعين الفرنسيين خلال زمن الاحتلال (5 يوليو/ تموز 1830 - 5 يوليو/ تموز 1962). مع ذلك، فإنّ الناس هنا لا يملكون الخبرة اللازمة لزراعة الأزهار، مثلما هو حاصل لدى سكّان مناطق أخرى، مثل سهل المتّيجة في جنوب الجزائر العاصمة".
تتابع زهرة: "كنت أعوض العلاج الكيميائي للسرطان، الذي أجّلته أربع سنوات، بالرغم من إلحاح الأطباء، بالحديث إلى نباتاتي، التّي كنت أحميها من الذبول حتّى لا أذبل أنا". وتذكر أنواعاً منها: "نباتات الزينة الموجهة للتنسيق الداخلي في البيوت، والموجهة للتنسيق الخارجي، وزهور القطف التي تُهدى في المناسبات، والزهور الموجّهة للتجفيف، فتستعمل كدواء أو توابل أو مراهم للزينة".
اقــرأ أيضاً
لكن، هل أنقذت الزهور الشابة زهرة فعلاً؟ بات لزهرة زبائن من المؤسسات الحكوميّة، مثل البلدية والولاية ومديريّة الثقافة ومديريّة التكوين المهني ومؤسسات رجال المال والأعمال، بالإضافة إلى الأسر الراغبة في تزويد شرفاتها بالنباتات الزهرية. تقول: "لقد حقّقت هدفي من زراعة الزهور، فعوض أن يأتيني الناس وهم يحملونها إليّ بصفتي مريضة، صاروا يأتون إليّ ليأخذوها منّي".
خضعت زهرة لاحقاً للعلاج الكيميائي. وما إن مرّت أشهر قليلة حتّى فوجئ الأطبّاء بأنّها تخلّصت من "المرض الخبيث"، الذي لم تبق منه إلّا آثار جسديّة طفيفة على مستوى الفكّ، تقول إنّها ستقضي عليها هي الأخرى بقراءة الشعر، الذي تحفظ منه كثيراً من النصوص المحرّضة على التحدّي والثقة بالنفس والإيمان بالحياة وسلطتها على الموت. تختم حديثها إلى "العربي الجديد": "المرض مثل النبتة. لا يستطيع أن يفرض علينا إرادته إذا لم يجد التربة المساعدة على ذلك. وتربة المرض هي استسلامنا له".
من بين أساليب التعامل مع المصاب، التّي كرستها عقيدة الجزائريين بـ"خبث" هذا المرض، أنّ قطاعاً واسعاً منهم يلجأ إلى إخفاء الحقيقة عنه، وإقناعه بأنّه مصاب بمرض من الأمراض التي يمكن علاجها، إلّا إذا كان متعلماً ويعرف طبيعة الأدوية التّي يتناولها وأماكن العلاج التي يقصدها.
فهل السرطان قدر محتوم لا مهرب منه ولا فكاك؟ تقول الشابة زهرة عريبي (من مواليد 1982)، لـ"العربي الجديد"، إنّها علمت ببوادر إصابتها بسرطان الحنجرة عام 2003. وخافت مثل كلّ البشر، في البداية: "عزلت نفسي عن محيطي وتخلّيت عن أشغالي، ودخلت في أحاديث عميقة مع النفس يحكمها سؤال: هل قدرنا أن يقتلنا السرطان حكماً؟ أم أنّ استسلامنا له وانهزامنا أمامه ويأسنا من الشفاء منه هو الذي يفعل ذلك؟".
تواصل: "فهمت مبكراً أنّني مطالبة بأن أقنع نفسي بأن تؤمن بإمكانية الشفاء، وأنّ هذا المرض ما هو إلا ضيف غير مرغوب فيه داخل جسدي، ولا بدّ من إرغامه على الخروج عاجلاً أم آجلاً".
تواصل حديثها لـ"العربي الجديد" بأنّ ثمّة أنواع سرطان اجتماعيّة تمنح للسرطان الجسدي فرصة أكبر للاستفحال والتمكّن من المصاب به في الدول المسماة بـ"دول العالم الثالث". تشرح فكرتها بالقول: "ثمّة طرق خاطئة للتضامن مع المصاب. فعوضاً عن حثّه على المقاومة والتمسك بالحياة، يجري حثّه على الاستعداد للآخرة ولقاء الله، ولئن كان هذا حقاً بالنسبة لنا نحن المؤمنين نعترف به ولا ننكره، فإنّه خاطئ منهجياً ونفسياً، لأنّه يُؤدي بالمصاب إلى الانهيار والاستسلام. وإذا أضفنا قلّة التحفّظ أمامه في الحديث عمّن أصيبوا بالمرض وماتوا بسببه، مع نبرة الشفقة والبكاء، فإنّ الأمر يصبح في حكم التعذيب المبرمج".
تسأل زهرة عريبي: "متى نصل إلى مرحلة نملك فيها الثقافة الصحيّة، التي تحصّننا من الإصابة بالسرطان، من خلال امتلاك ثقافة غذائية صحية؟ كذلك، متى إذا وقعت الإصابة، نملك الطريقة السليمة للتعامل نفسياً مع المصاب، فلا نكون عوناً للمرض عليه؟".
تقول زهرة إنّها وجدت نفسها تتحدّى، في الوقت نفسه، السرطان والمجتمع الذي لا يُحسن التعامل مع المصاب بالمرض فيُبكيه ويبكي عليه ويعدّه للقبر عوضاً عن إعداده ليستعيد إيمانه بالحياة. وتشير إلى فلسفة جديرة بالإعجاب: "قلت لنفسي إنّه عوضاً عن المكوث في السرير وتلقي باقات الزهور، عليّ أن أغادره وأزرع الزهور بنفسي". بالإضافة إلى الخلفية النفسية لهذا الخيار، فثمة خلفية أخرى جعلت زهرة تتوجه للاستثمار في الزهور هي أنّها حفيدة لجدّ جزائري عمل بستانياً في فرنسا خلال سبعينيات القرن العشرين، وهي النزعة التّي ورثتها عنه أمها أيضاً.
كذلك، فإنّ زهرة خريجة معهد التكوين المهني في اختصاص البستنة. تقول: "مقاومتي لمرض السرطان برعاية الزهور لم تكن مسلحة بحبّي لها وشغفي بها وميلي إليها فقط، بل كانت مسلّحة بالعلم والمعرفة أيضاً. أنا أعرف طبيعة التربة التي تنمو فيها الزهرة وكمية الماء التي تحتاج إليها، ودرجة الحرارة التي تناسبها، وكيف ومتى أزرعها".
فهم إخوة زهرة مرادها من زراعة الأزهار، فلم يتخلّفوا عن الانخراط معها في المسعى، الذي بدأ ببيت زراعي بلاستيكي لا تتجاوز مساحته عشرين متراً مربعاً، ليتوسّع بعد فترة وجيزة إلى 5000 متر مربّع، وانضمام نخبة من العمّال المساعدين إلى العائلة.
تقول: "كنت أرى السرطان يبتعد عن حنجرتي كلّما تحدثت عن المشروع مع إخوتي وعمّالي ومحيطي الذي يملك رصيداً تاريخياً في زراعة الحبوب والخضار والفواكه، إذ إنّ منطقة مجّانة، التّي أنتمي إليها (في ولاية برج بوعريريج، شرقي الجزائر)، تُعدّ من أخصب الأماكن في الشرق الجزائري، لذلك فقد كانت محلّ أطماع المزارعين الفرنسيين خلال زمن الاحتلال (5 يوليو/ تموز 1830 - 5 يوليو/ تموز 1962). مع ذلك، فإنّ الناس هنا لا يملكون الخبرة اللازمة لزراعة الأزهار، مثلما هو حاصل لدى سكّان مناطق أخرى، مثل سهل المتّيجة في جنوب الجزائر العاصمة".
تتابع زهرة: "كنت أعوض العلاج الكيميائي للسرطان، الذي أجّلته أربع سنوات، بالرغم من إلحاح الأطباء، بالحديث إلى نباتاتي، التّي كنت أحميها من الذبول حتّى لا أذبل أنا". وتذكر أنواعاً منها: "نباتات الزينة الموجهة للتنسيق الداخلي في البيوت، والموجهة للتنسيق الخارجي، وزهور القطف التي تُهدى في المناسبات، والزهور الموجّهة للتجفيف، فتستعمل كدواء أو توابل أو مراهم للزينة".
لكن، هل أنقذت الزهور الشابة زهرة فعلاً؟ بات لزهرة زبائن من المؤسسات الحكوميّة، مثل البلدية والولاية ومديريّة الثقافة ومديريّة التكوين المهني ومؤسسات رجال المال والأعمال، بالإضافة إلى الأسر الراغبة في تزويد شرفاتها بالنباتات الزهرية. تقول: "لقد حقّقت هدفي من زراعة الزهور، فعوض أن يأتيني الناس وهم يحملونها إليّ بصفتي مريضة، صاروا يأتون إليّ ليأخذوها منّي".
خضعت زهرة لاحقاً للعلاج الكيميائي. وما إن مرّت أشهر قليلة حتّى فوجئ الأطبّاء بأنّها تخلّصت من "المرض الخبيث"، الذي لم تبق منه إلّا آثار جسديّة طفيفة على مستوى الفكّ، تقول إنّها ستقضي عليها هي الأخرى بقراءة الشعر، الذي تحفظ منه كثيراً من النصوص المحرّضة على التحدّي والثقة بالنفس والإيمان بالحياة وسلطتها على الموت. تختم حديثها إلى "العربي الجديد": "المرض مثل النبتة. لا يستطيع أن يفرض علينا إرادته إذا لم يجد التربة المساعدة على ذلك. وتربة المرض هي استسلامنا له".