06 نوفمبر 2024
زمن اندحار الديمقراطية
تتراجع الديمقراطية في العالم. إنه زمن "الانحدار الديمقراطي"، فعدد الديمقراطيات في العالم في تراجع، بينما السلطوية والدكتاتورية تتمططان في أكثر من بقعة في العالم، من روسيا مرورا بالصين إلى تركيا ومصر، وعبورا حتى أميركا التي قال نعوم تشومسكي، في مقابلة مع صحيفة الباييس الإسبانية نشرت الأسبوع الماضي، إن رئيسها الحالي، دونالد ترامب، أصبح يمثل خطرا حقيقيا على الديمقراطية.
ورسم، أخيرا، تقرير "حالة الديمقراطية والحريات في العالم"، الذي تصدره وحدة البحوث في مجلة الإيكونوميست البريطانية، صورة قاتمة عن حالة الديمقراطية، في دول عديدة. وأظهر أن أكثر من نصف البلدان شهدت تراجعا على مؤشر "الصحة الديمقراطية"، وصنف الأنظمة السياسية الحاكمة ضمن أربعة مستويات، ديمقراطيات كاملة، وديمقراطيات معيبة، وأنظمة تتفاوت ما بين الديمقراطية والديكتاتورية، وانتهاء بالأنظمة الديكتاتورية.
وحتى في أوروبا الغربية، مهد الديمقراطية، تكتسح الشعبوية واليمين المتطرّف ديمقراطياتها
الليبيرالية، وأصبحا يستغلان آلياتها، وفي الوقت نفسه، لا يؤمنان بقيمها ومبادئها. وهنا نقطة ضعف الديمقراطية التي تتيح لمن يختلفون معها، ولا يؤمنون بفكرها، أن يستغلوا آلياتها، ليؤسسوا أنظمة معادية لها، كما فعلت النازية والفاشية من قبل، وتفعل اليوم أنظمة سلطوية ودكتاتورية "منتخبة" كثيرة، كما هو الحال في روسيا ومصر.
إننا أمام أزمة الديمقراطية التي أصبحت تنتج نقيضها الذي يقوّضها من الداخل، ليفرغها من محتواها من دون القضاء عليها، لأنه يحتاج إلى آلياتها، وأهم هذه الآليات هي الانتخابات التي تصر كل الأنظمة السلطوية، بل وحتى الشمولية والدكتاتورية على تنظيمها، وحث الشعوب على المشاركة فيها، لأنها تعرف كيف تزور نتائجها لتمنح نفسها شرعيتها.
وهذه حالة عامة أصابت الديمقراطية في كل العالم، فبعد الصعود الكبير الذي عرفته الديمقراطية، عقب السقوط المدوي لحائط برلين عام 1989، عادت السلطوية لتتمدد ابتداء من أحداث "11 سبتمبر" عام 2001 في أميركا، وإعلان ما تسمى "الحرب العالمية ضد الإرهاب"، فتراجعت قيم الديمقراطية، لتفسح المجال أمام المقاربات الأمنية والعسكرية، تشجعها لوبيات الضغط في الدول الغربية، بحثا عن مصالحها الآنية. فانتقل العالم من حالة انتصار الديمقراطية التي وصفها فرانسيس فوكوياما بأنها "نهاية التاريخ"، إلى الدخول في أزمتها التي جسّدها صامويل هنتنغنتون في نظريته "صراع الحضارات". وكشفت تلك الأزمة أن أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبتها الأنظمة الغربية الديمقراطية تركيزها على واحدة من قيم الديمقراطية، وهي الليبرالية التي تختزلها أنظمتها الرأسمالية في السوق الحرة.
ومع ثورات "الربيع العربي" عام 2011 كان يعتقد أن موجة جديدة من موجات الديمقراطية سوف تكتسح العالم، مع توقع أن تكون أشد وأقوى من التي شهدها بعد سقوط جدار برلين، وانهيار المعسكر الشيوعي الشمولي، لكن ما حدث هو العكس، فقد نجحت "الثورات المضادة"، المدعومة من أنظمة سلطوية وشمولية، في أن تحول ثورات الشعوب العربية إلى حروب طائفية ودينية وصراعات على الانتماء والهوية.
وداخل بلدان الديمقراطيات الغربية، أدى الخوف من تدفق المهاجرين واللاجئين إلى الانكفاء على الذات، وظهور نزعاتٍ يمينية وشعبوية، استغلت الخوف عند الناس، لنشر دعاياتها واكتساح الانتخابات وفرض قيمها المعادية للديمقراطية، حتى تحولت الأخيرة إلى مجرد محطة للاقتراع، تختزل في الانتخابات، ويَنحسر دورها في الاختيار ما بين الأسوأ والأكثر سوءا.
إننا أمام حالة اندحار للديمقراطية، باتت تهدد الديمقراطية نفسها، وبالتالي نمط الحياة الغربية، من خلال: صعود الأحزاب القومية والشعبوية، وتنامي الغوغائية، وتمطط الاستبدادية، والنزعات الحمائية، وعودة الدولة القومية بمفهومها القديم، وهيمنة النزعة العدوانية في النقاش العام، وتحول التصويت إلى سلاح ضد الديمقراطية.
وهناك اليوم خوف متنام داخل الدول الغربية من هذا التراجع الذي يعتبره بعضهم من النتائج السلبية لـ "العولمة" التي فاقمت الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين الدول، بل وحتى داخل المجتمعات التي أصبحت معرّضة للتفكك الاجتماعي، وانفجار السخط والازدراء بسبب هذه الفوارق، وظهور عالم جورج أورويل داخل الدول لضبط هذه المجتمعات، والتحكم فيها وتنميطها، وتسليع مواطنيها الذين أصبحوا يتحولون تدريجيا زبناء.
ومع الثورة الرقمية التي يشهدها العالم اليوم، وتأثيرها الكبير على قواعد "التسويق السياسي"، ثمّة سؤال حقيقي أصبح يطرح بإلحاح في الغرب عن ضرورة إعادة النظر في أخلاقيات
الديمقراطية، بعدما تحول المواطن إلى مجرد "زبون"، يجب إغراؤه، بعد تحديد انتظاراته ومحفزاته، بمساعدة محرّكات البحث والبيانات المخزنة لدى وسائط التواصل الاجتماعي.
فالاعتماد على وسائط التواصل الاجتماعي، وليس على الأفكار والبرامج، أصبح محدّدا في الانتخابات، لأنها تساعد على تحديد خصائص استهلاك الناخب في دائرته الانتخابية، وسلوك ذلك وأسلوبه، من أجل تكييف الرسالة الموجهة إليه. وتبعاً لذلك، يتم استعمال الشعارات والكلمات المواتية لإغرائه، إلى درجةٍ تحولت معها البرلمانات إلى مجرد "أندية" لممثلي الزبناء المستهلكين الواقعين تحت تأثير أخصائيي التسويق السياسي الذين يبرعون في تصميم وتعبئة "المنتجات" التي يبتلعها المستهدفون، وهم في غفلة من أمرهم.
تراجع الديمقراطية باعتبارها قيمة عائد، في جزء منه، أيضا إلى القطيعة المتنامية ما بين المواطن والدولة، وما بين الفرد والسياسة باعتبارها شأنا عاما، يهم جميع أفراد المجتمع. ولن تتحقق استعادة الديمقراطية وهجها إلا بإعادة الاعتبار لكل قيمها التي تعتبر أحسن ما أنتجته البشرية، في انتظار ما هو أفضل. وكما كان يقول رئيس الوزراء البريطاني السابق، ونستون تشرشل، تبقى الديمقراطية "أسوأ نظام حكم عرفته البشرية"، لكنها ستظل الأحسن في انتظار الأفضل.
ورسم، أخيرا، تقرير "حالة الديمقراطية والحريات في العالم"، الذي تصدره وحدة البحوث في مجلة الإيكونوميست البريطانية، صورة قاتمة عن حالة الديمقراطية، في دول عديدة. وأظهر أن أكثر من نصف البلدان شهدت تراجعا على مؤشر "الصحة الديمقراطية"، وصنف الأنظمة السياسية الحاكمة ضمن أربعة مستويات، ديمقراطيات كاملة، وديمقراطيات معيبة، وأنظمة تتفاوت ما بين الديمقراطية والديكتاتورية، وانتهاء بالأنظمة الديكتاتورية.
وحتى في أوروبا الغربية، مهد الديمقراطية، تكتسح الشعبوية واليمين المتطرّف ديمقراطياتها
إننا أمام أزمة الديمقراطية التي أصبحت تنتج نقيضها الذي يقوّضها من الداخل، ليفرغها من محتواها من دون القضاء عليها، لأنه يحتاج إلى آلياتها، وأهم هذه الآليات هي الانتخابات التي تصر كل الأنظمة السلطوية، بل وحتى الشمولية والدكتاتورية على تنظيمها، وحث الشعوب على المشاركة فيها، لأنها تعرف كيف تزور نتائجها لتمنح نفسها شرعيتها.
وهذه حالة عامة أصابت الديمقراطية في كل العالم، فبعد الصعود الكبير الذي عرفته الديمقراطية، عقب السقوط المدوي لحائط برلين عام 1989، عادت السلطوية لتتمدد ابتداء من أحداث "11 سبتمبر" عام 2001 في أميركا، وإعلان ما تسمى "الحرب العالمية ضد الإرهاب"، فتراجعت قيم الديمقراطية، لتفسح المجال أمام المقاربات الأمنية والعسكرية، تشجعها لوبيات الضغط في الدول الغربية، بحثا عن مصالحها الآنية. فانتقل العالم من حالة انتصار الديمقراطية التي وصفها فرانسيس فوكوياما بأنها "نهاية التاريخ"، إلى الدخول في أزمتها التي جسّدها صامويل هنتنغنتون في نظريته "صراع الحضارات". وكشفت تلك الأزمة أن أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبتها الأنظمة الغربية الديمقراطية تركيزها على واحدة من قيم الديمقراطية، وهي الليبرالية التي تختزلها أنظمتها الرأسمالية في السوق الحرة.
ومع ثورات "الربيع العربي" عام 2011 كان يعتقد أن موجة جديدة من موجات الديمقراطية سوف تكتسح العالم، مع توقع أن تكون أشد وأقوى من التي شهدها بعد سقوط جدار برلين، وانهيار المعسكر الشيوعي الشمولي، لكن ما حدث هو العكس، فقد نجحت "الثورات المضادة"، المدعومة من أنظمة سلطوية وشمولية، في أن تحول ثورات الشعوب العربية إلى حروب طائفية ودينية وصراعات على الانتماء والهوية.
وداخل بلدان الديمقراطيات الغربية، أدى الخوف من تدفق المهاجرين واللاجئين إلى الانكفاء على الذات، وظهور نزعاتٍ يمينية وشعبوية، استغلت الخوف عند الناس، لنشر دعاياتها واكتساح الانتخابات وفرض قيمها المعادية للديمقراطية، حتى تحولت الأخيرة إلى مجرد محطة للاقتراع، تختزل في الانتخابات، ويَنحسر دورها في الاختيار ما بين الأسوأ والأكثر سوءا.
إننا أمام حالة اندحار للديمقراطية، باتت تهدد الديمقراطية نفسها، وبالتالي نمط الحياة الغربية، من خلال: صعود الأحزاب القومية والشعبوية، وتنامي الغوغائية، وتمطط الاستبدادية، والنزعات الحمائية، وعودة الدولة القومية بمفهومها القديم، وهيمنة النزعة العدوانية في النقاش العام، وتحول التصويت إلى سلاح ضد الديمقراطية.
وهناك اليوم خوف متنام داخل الدول الغربية من هذا التراجع الذي يعتبره بعضهم من النتائج السلبية لـ "العولمة" التي فاقمت الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين الدول، بل وحتى داخل المجتمعات التي أصبحت معرّضة للتفكك الاجتماعي، وانفجار السخط والازدراء بسبب هذه الفوارق، وظهور عالم جورج أورويل داخل الدول لضبط هذه المجتمعات، والتحكم فيها وتنميطها، وتسليع مواطنيها الذين أصبحوا يتحولون تدريجيا زبناء.
ومع الثورة الرقمية التي يشهدها العالم اليوم، وتأثيرها الكبير على قواعد "التسويق السياسي"، ثمّة سؤال حقيقي أصبح يطرح بإلحاح في الغرب عن ضرورة إعادة النظر في أخلاقيات
فالاعتماد على وسائط التواصل الاجتماعي، وليس على الأفكار والبرامج، أصبح محدّدا في الانتخابات، لأنها تساعد على تحديد خصائص استهلاك الناخب في دائرته الانتخابية، وسلوك ذلك وأسلوبه، من أجل تكييف الرسالة الموجهة إليه. وتبعاً لذلك، يتم استعمال الشعارات والكلمات المواتية لإغرائه، إلى درجةٍ تحولت معها البرلمانات إلى مجرد "أندية" لممثلي الزبناء المستهلكين الواقعين تحت تأثير أخصائيي التسويق السياسي الذين يبرعون في تصميم وتعبئة "المنتجات" التي يبتلعها المستهدفون، وهم في غفلة من أمرهم.
تراجع الديمقراطية باعتبارها قيمة عائد، في جزء منه، أيضا إلى القطيعة المتنامية ما بين المواطن والدولة، وما بين الفرد والسياسة باعتبارها شأنا عاما، يهم جميع أفراد المجتمع. ولن تتحقق استعادة الديمقراطية وهجها إلا بإعادة الاعتبار لكل قيمها التي تعتبر أحسن ما أنتجته البشرية، في انتظار ما هو أفضل. وكما كان يقول رئيس الوزراء البريطاني السابق، ونستون تشرشل، تبقى الديمقراطية "أسوأ نظام حكم عرفته البشرية"، لكنها ستظل الأحسن في انتظار الأفضل.