زمن التدخلات المذهبيّة
يعدّ التدخل العسكري العربي، بقيادة السعودية، في اليمن، دلالة على دخول العالم العربي عهد التدخلات المذهبية خدمة لمآرب أنظمة عربية وقوى غربية. ويتميّز التدخل في اليمن باستخدام مبررات ومسوّغات جديدة ـ قديمة، وبعودة خطاب "قديم" إلى الواجهة: الحديث عن إحياء "ميثاق الدفاع العربي المشترك"، وعن حماية مكة، ما يذكّرنا بالجدال العربي البيني عقب الغزو السوفييتي لأفغانستان، لما انقسم العرب، ووظفوا الدين في مزايداتهم السياسية، فمنهم من قال بضرورة الدفاع عن كابول ضد السوفييت، ومنهم من قال بأولوية القدس على كابول... والملاحظ أن استنفار الدول العربية ضد الحوثيين يفوق بكثير استنفارهم ضد داعش، وهذا يعود إلى الصبغة المذهبية التي أضفيت على الصراع اليمني من الحوثيين والدول العربية المناوئة لهم. أما اليمن فكان ولا يزال ساحة لعبث دول المنطقة. ففي ستينيات القرن الماضي، كان مسرحاً لحرب بين مصر والسعودية: دعمت مصر الناصرية الانقلابيين العسكريين والنظام الجمهوري الذي أقاموه، بينما دعمت السعودية الوهابية الإمام الزيدي الشيعي، في أحد أبرز حلقات الحرب البادرة العربية التي تحولت، حينها، إلى حرب ساخنة. وها هو اليوم مسرح لحرب مذهبية بين السعودية السنية الوهابية وإيران الشيعية.
مع "عملية الحزم" في اليمن، تكتمل أضلاع مثلت التدخل المذهبي. فلدينا الآن ثلاثة نماذج للتدخلات المذهبية العربية (من دون أي تدخل غربي مباشر)، لكنها تختلف من حيث الهدف. سورية هي النموذج الأول، أين اكتفى التدخل المذهبي بالحرب بالنيابة، لإسقاط النظام الحاكم. وتم تمييع المطلب الديمقراطي للشعب السوري، ليحل محله صراع مذهبي بين العلويين والسنّة، بتورط فواعل (دولتية وغير دولتية)، عربية وغيرها في الصراع المذهبي. فالقوى المساندة للنظام (إيران وحزب الله)، إنما تفعل لدواع مذهبية، والقوى التي تساند المعارضة إنما تفعل، أيضاً، لدواع مذهبية. فذهب المطلب الديمقراطي للشعب السوري في مهب الريح، وأصبحت بلاده مسرحاً لصراع إقليمي، بواسطة أطراف سورية. هكذا بدل أن تقود الانتفاضة الديمقراطية السورية إلى عملية انتقال ديمقراطي، تحولت، وبسرعة، إلى حرب أهلية، وحرب بالنيابة انخرطت فيها قوى سورية (نظامية وغير نظامية)، لصالح أطراف إقليمية. أما النموذج الثاني، فهو البحرين، أين تدخلت دول خليجية لحماية النظام من المطلب الديمقراطي الذي أضفت عليه صبغة مذهبية هو الآخر. والنموذج اليمني هو الثالث، حيث تمخض عن "الثورة" صراع مذهبي، بلغ أوجه مع استيلاء الحوثيين على الحكم وتدخل الائتلاف العربي.
ومن ثم، من منظور المنطق المذهبي العربي، لا يمكن القبول بسقوط نظاميين سنيين في البحرين واليمن (منطق مذهبي محافظ على الوضع القائم)، كما لا يمكن عدم مساندة (مالياً، سياسياً وعسكرياً)، إسقاط نظام علوي في سورية (منطق مذهبي انقلابي). أما المنطق المذهبي الإيراني، فهو محافظ (على الوضع القائم) في سورية، وانقلابي في اليمن. هكذا تتدخل دول عربية لدواعٍ مذهبية، في الوقت الذي تعيب فيه على إيران تدخلاً من الطبيعة نفسها، والعكس صحيح. الحقيقة أن القاسم المشترك الأساسي والحاسم بين إيران ودول الائتلاف العربي المتدخل في اليمن هو القناعة المذهبية (الصراع المذهبي). ومن ثم، هناك تصدير (مذهبي) وتصدير مضاد يطرحان إشكالية في غاية الأهمية: إذا عجز المسلمون عن التعايش في ما بينهم (في البلد الواحد وفي المنطقة الواحدة)، فكيف بإمكانهم أن يتعايشوا مع غيرهم (غير المسلمين)؟ المثير في الأمر أن الدول العربية ترفض مقولة صراع الحضارات (في علاقاتها مع الدول الغربية)، وتدافع عن مقولة حوار الحضارات (على الرغم ممّا تحمله المقولتان من تناقضات في المفردات)، لكنها تؤمن بالمقولة الثانية بينيّاً. وكأن الصراع المذهبي مع المذاهب الأخرى مرفوض، بينما الصراع المذهبي الإسلامي البيني مقبول.
تتدخل الدول العربية في اليمن على أساس قناعات مذهبية، وليس على أساس اعتبارات الأمن القومي، المختزل أصلاً في أمن النظام القائم. وبالتالي، يعلم كل فريق أن المذهبية عامل تعبئة وحشد منقطع النظير في مشرق عربي ممزّق، تنخر جسده الصراعات الدينية البينية. هذه الدول التي تتدخل، الآن، في اليمن، متذرّعة بأمنه واستقرار ووحدته، وقفت، في السابق، ضد وحدته مشجّعة الانفصال. كما أنها تغض البصر عن التحالف بين الحوثيين وأتباع الرئيس السابق علي عبد الله صالح، لأنه يزعزع الدوافع المذهبية.
لكن، مَن أوصل اليمن إلى هذا الحال؟ مسؤولية اليمنيين لا جدال فيها، وبالتحديد نظام صالح، وجزئياً "سلطة" ما بعد "الثورة" التي أساءت إدارة شؤون البلاد في وقت حساس. فعوض الانتقال الديمقراطي، وجد اليمن نفسه في أيدي سلطة هشة ومنكشفة ومليشيات (الحوثية أساساً)، فضلاً عن تصلّب عود القاعدة، ومحل تنافس بين قوتين إقليميتين (السعودية وإيران)، تصفيان حساباتهما المذهبية والاستراتيجية عبر يمنيين نقلوا ولاءهم من بلدهم إلى قوى مذهبية خارجية، لا تعير أية أهمية لا لحالهم ولا لمآلهم.
وزادت المسؤولية الإقليمية الخليجية الأمور تعقيداً، لأن دول الخليج وجّهت الأحداث في اليمن وفق منطقها. فهل أجهضت المبادرة الخليجية الانتفاضة الديمقراطية في اليمن؟ يبدو أنها أرادت تغييراً داخل النظام، وليس تغييراً للنظام، لأن في وسع الخيار الأخير أن يسمح لليمن بالشروع في عملية انتقال ديمقراطي. وهذا أمر غير مرغوب فيه خليجياً، لأن يمناً ديمقراطياً سيكون بمثابة خنجر في خاصرة الأنظمة غير الديمقراطية المجاورة. لذا، سعت إلى وقف الصراع بإعادة ترتيب البيت اليمني بشكل محدود للغاية، وفي إطار الحدود السياسية نفسها. فلا متابعة لأقطاب النظام السابق، ولا نزع لأسلحة مختلف المليشيات، ولا حل لمعضلة العلاقة بين الجنوب والشمال... بل صيغت المبادرة الخليجية على أساس اختزال الانتفاضة الديمقراطية في مجرد أزمة سياسية بين فرقاء سياسيين (فواعل معينة). وبالتالي، يتعيّن ترتيب الأمور السياسية نفسها من دون تغيير الجوهر (تغيير النظام). والعملية تحصيل حاصل، لأنه لا يمكن لدول غير ديمقراطية أن تساهم في بناء دولة ديمقراطية في تخومها، ففاقد الشيء لا يعطيه، فضلاً عن أن في ذلك خطر على أمن أنظمتها.
تشير هذه الصراعات والتدخلات المذهبية في العالم العربي إلى أن الأخير يعيش في القرن السابع عشر الأوروبي، فمعاهدة واستفاليا (1648)، التي وضعت حداً للسلطة الدينية (البابوية تحديداً)، في أوروبا، تبنّت مبدأ دين الدولة هو دين أميرها، بمعنى أن المرء ليس حراً في أن يكون بروتستانتياً في مملكة كاثوليكية، أو كاثوليكياً في مملكة بروتستانتية، أو كالفنياً في أرض لوثرية. بالطبع، تجاوزت الدول الأوروبية هذه المحنة منذ قرون، ولم تعد تفرّق بين مواطنيها على أساس ديني. أما العالم العربي، فهو حبيس الدولة المذهبية التي هي نقيض الدولة الديمقراطية. وبما أن الولاء المذهبي لا ينصهر في ولاء مذهبي آخر، فإن الحل تحويله إلى ولاء للدولة الديمقراطية، دولة الجميع، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية.