زلزال صندوق التنمية يهز ماليزيا... والتداعيات تصل للسعودية والإمارات

02 يوليو 2018
كشف أدلة تؤكد تورط نجيب في فضيحة الفساد (Getty)
+ الخط -
تشهد ماليزيا زلزالاً سياسياً واقتصادياً بدأت أحداثه قبيل الإعلان عن نتائج الانتخابات العامة الأخيرة، وفوز تحالف الحكم الجديد، بقيادة رئيس الوزراء الحالي مهاتير محمد، وحليفه أنور إبراهيم. زلزال بدأ يعصف بالبلاد بعد دخول ماليزيا في مرحلة تداعيات فضيحة صندوق التنمية الماليزية (1MDB)، والذي بات يشكّل نقطة تحوّل في تاريخ البلاد، ويدفعها إلى تغيير سياستها الاقتصادية والسياسية، وفقاً للمعطيات التي أفرزتها قضايا الفساد المهولة، وسط تعقيدات سياسية واقتصادية خلّفتها الحكومة السابقة، بقيادة نجيب عبدالرزاق، ما يجعل الحكومة الحالية أمام تحدٍ صعب، قد لا تجتازه بسهولة، نظراً لتداعيات هذا الملف، والتي قد تؤدي إلى زجّ نجيب وعدد من قيادات الحكومة السابقة في السجن. ولا تتوقف تداعيات هذه القضية على الداخل، بل إنها تتوسع لتطاول دولاً خارجية، لا سيما السعودية والإمارات، مع كشف تسريبات عن استغلال علاقاتهما بنجيب في تلاعبات مالية.

معركة طويلة
منذ شهرين متواصلين، تخوض الأجهزة الأمنية والسلطات المحلية في ماليزيا، مدعومة من حكومة مهاتير، معركة طويلة ومعقّدة لكشف كل خيوط الفساد، خصوصاً التي تطاول القوى والأحزاب والشركات والشخصيات، إضافة إلى الدول المتورطة في فضيحة صندوق التنمية، والتي يربط كثيرون نجاح الحكومة الحالية أو فشلها بقدرتها على التعامل مع تداعيات هذه القضية، والتي قد تدفع ماليزيا إلى البحث عن خيارات سياسية واقتصادية كثيرة لكشف تفاصيل التلاعبات المالية، والجهات المتورطة فيها إلى جانب نجيب، وملاحقة كل المتورطين في محاكم دولية.

وتواصل السلطات شنّ مداهمات بشكل شبه يومي لعدد كبير من الشقق والمنازل، التي تُكتشف فيها أموال مكدسة، تقول هيئة مكافحة الفساد إنها تعود لقيادات سياسية عديدة، بينها نجيب عبدالرزاق وزوجته، وعدد من وزراء الحكومة السابقة، وقيادات في حزب "امنو" الذي تم انتخاب أحمد زهيد حميدي رئيساً له أخيراً، فيما أشارت معلومات إلى أن التحقيقات ستبدأ معه بخصوص أموال سعودية تسلمها نجيب. وتمكّنت الشرطة من جمع مئات ملايين الدولارات، فضلاً عن صناديق من المجوهرات باهظة الثمن. وقال وزير الداخلية محيي الدين ياسين، إن الدلائل والمضبوطات كافية لإدانة نجيب وزوجته، والأمر يحتاج فقط إلى بدأ الإجراءات القانونية في حقهم.

وبدأت السلطات في تجميد أرصدة مالية، فقد جمّدت حتى اللحظة أكثر من 900 حساب مصرفي تعود لشخصيات وشركات وأحزاب، وفي مقدمتها حسابات لحزب "امنو"، الذي كان يتزعمه نجيب عبدالرزاق. كما أن السلطات تستعد لإطلاق قائمة لملاحقة شخصيات وجهات داخلية وخارجية لها علاقة بفضيحة الفساد، في ظل اتهامات بتورط دول عربية، بينها السعودية والإمارات، في ملف الفساد. كذلك فإن عشرات المسؤولين في المراكز الاقتصادية الحساسة في البلاد قدّموا استقالاتهم، بعد وصول خيوط الفضيحة إلى مكاتبهم، وكان آخرهم رئيس شركة بيرمودالان ناشيونال بيرهاد (PNB) عبدالواحد عمر. في الوقت نفسه، قالت الشرطة إنها اعتقلت العديد من الأشخاص المتورطين في فضيحة الفساد، وتُعد قائمة لملاحقة بعض الأفراد والكيانات داخل وخارج ماليزيا، متورطين في قضايا الفساد. وأكدت الشرطة أنها تحقق مع 400 شخص، من بينهم على الأقل أربعة يشغلون مراكز عالية، ومنهم أعضاء في حزب "امنو" وأفراد عائلاتهم، ورجل أعمال بارز من ولاية ساراواك، وسط دعوات للتحقيق مع قادة حزب "المؤتمر الإسلامي"، وفق وسائل إعلام ماليزية.

كذلك، فإن الجيش يساعد بشكل كبير في التحقيقات، نظراً لأن القضية صارت أكبر مما كان يتوقع، وكل يوم يطل بأحداث وفضائح جديدة، وقائمة جديدة من الأسماء والشركات، فيما يراقب الماليزيون بقلق التطورات عن كثب، لا سيما أنها أدخلت ماليزيا في أزمة اقتصادية كبيرة، ورفعت من الديون الخارجية، والتي يحاول رئيس الوزراء مهاتير محمد تخفيفها من خلال لقاءاته الاقتصادية مع العديد من الدول، وتبنّي رؤية اقتصادية جديدة، والتخلي عن مشاريع يرى أنها ليست مهمة حالياً، كإلغاء مشروع قطار ماليزيا - سنغافورة السريع، الذي يربط العاصمة الماليزية بالعاصمة السنغافورية. وقال مهاتير في تصريحات إعلامية، إنهم كانوا يراقبون الفساد وكان عندهم علم بقضايا الفساد في عهد نجيب، لكنهم عندما استلموا الحكم اكتشفوا أن الوضع أسوأ مما كانوا يعتقدون.
وتساعد في التحقيقات القائمة في فضيحة الصندوق دول مثل لوكسمبورغ وسنغافورة والولايات المتحدة الأميركية وكذلك سويسرا وبعض دول شرق آسيا. وقال محققون سويسريون، وفقاً لما نشرته الصحافة الماليزية، إن هناك شبهات فساد تُقدّر بأكثر من 4 مليارات دولار تقف خلفها قيادات ماليزية لها علاقة بالصندوق الماليزي.


دور السعودية والإمارات

المعلومات الأولية في قضية فضيحة صندوق التنمية الماليزي "1أم دي بي"، تشير إلى تورط بعض الدول، كالسعودية والإمارات، في هذه القضية، وبدأت أسماء هذه الدول تظهر مبكراً، لا سيما بعد كشف تحقيقات أميركية وغيرها من الهيئات الدولية أن السعودية حوّلت مبلغ 681 مليون دولار إلى الحساب الشخصي لنجيب عبدالرزاق. وعلى الرغم من محاولات الأخير نفي التهمة، إلا أن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، خرج في 2016 ليؤكد بشكل رسمي أن المبلغ عبارة عن هدية من قبل الأسرة المالكة السعودية، وهو ما فتح المجال أكثر في ماليزيا للتحقيق في صفقات الفساد المتشعبة، لا سيما بعد تزايد التساؤلات حول فقدان ما يقارب 13 مليار دولار من صندوق التنمية.

وبعد ذلك جاءت التسريبات والتحقيقات الأميركية، والتي تؤكد تورط دولة الإمارات، عبر سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة، وتشير إلى تورطه في تبييض الأموال وتحويلات وتلاعبات عبر حلفاء ماليزيين، ظهر حتى اللحظة اسم شخصية مالية واقتصادية يدعى جو لو، ثم الكشف عن تحويلات إماراتية عبر صندوق التنمية. وخرجت الإمارات في محاولة لتلافي التداعيات، وادعت أن المبالغ المحوّلة هي ضمن التعاون بين البلدين، لكن ذلك لم يقنع الماليزيين الذين استمروا في تحقيقاتهم.

وكانت فضيحة الفساد قد بدأت تنتشر عندما كان نجيب عبدالرزاق لا يزال رئيساً للوزراء، لكنه كان يقضي على أي تحقيقات حولها قبل أن تبدأ، فقد أقال رئيس هيئة مكافحة الفساد حينها محمد عبدالشكور، فضلاً من منع خلفه من مواصلة التحقيق في فضيحة الفساد، التي لم تكن إلا مجرد شبهات وفي حدود معينة. ولأن نجيب وحلفاءه لم يكونوا يتوقعون هزيمتهم في الانتخابات الأخيرة، التي كانت مفاجئة وصادمة لهم، فقد عمد الجيش والشرطة إلى منع إخراج أي وثائق أو مستندات من أي مؤسسة حكومية، بما فيها مقر مجلس الوزراء الذي انتشر الجيش في محيطه، مانعاً الدخول والخروج حتى قبل إعلان نتائج الانتخابات، فضلاً عن انتشار الشرطة ومراقبتها منازل تابعة لنجيب عبدالرزاق وقيادات في حزبه ومسؤولين حكوميين، فيما باشرت الشرطة بعد إعلان النتائج بساعات قليلة في عملية التحقيق وجمع الدلائل والوثائق وملاحقة المتورطين في قضايا الفساد. وأعادت الحكومة الماليزية الجديدة رئيس هيئة مكافحة الفساد محمد عبدالشكور إلى منصبه، وبدأ الرجل منذ عودته في الكشف عن الكثير من التفاصيل المتعلقة بالفساد والدول والمؤسسات التي تجاوبت مع التحقيقات.

تداعيات الأزمة على المستوى المحلي أيضاً طاولت الوضع الاقتصادي، كما أنها قد تؤدي إلى وقف عدد من الأحزاب السياسية، التي لها علاقة بفضيحة الفساد، وعلى رأسها حزب "امنو"، الذي يشهد انقسامات حادة وانشقاقات، وسط غضب شعبي حيال القيادات البارزة في الحزب المتهمة بقضايا الفساد.

التأثيرات الخارجية
تأثير الأزمة التي خلّفتها فضيحة صندوق التنمية الماليزية، أصبح من المؤكد أنه ألقى بظلاله على العلاقات الخارجية للبلاد، ففي الوقت الذي تشبّثت فيه بعلاقات جيدة مع دول آسيوية، كالصين وسنغافورة وبروناي وإندونيسيا وغيرها من الدول، إلا أن العلاقات مع عدد من دول الشرق الأوسط حتماً ستتغير، على ضوء تداعيات الفضيحة، بما فيها التعاطي مع الملفات السياسية في المنطقة. فقد حسمت ماليزيا أمرها في أول هذه الملفات، وقررت أخيراً الانسحاب من التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، بعد شد وجذب وتكهنات طرأت من اليوم الأول لاستلام تحالف الحكم الجديد، برئاسة مهاتير محمد، رئاسة الحكومة، بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة. وأكد وزير الدفاع الماليزي محمد سابو، أن الحكومة قررت سحب القوات الماليزية المشاركة ضمن التحالف.

انسحاب ماليزيا من التحالف هو نتيجة للتطورات والتحوّلات المهمة التي تشهدها البلاد على مختلف المستويات، لا سيما بعد فضيحة الفساد التي باتت نتائجها تُعد محور ارتكاز، لتنعكس تحولاً في علاقات كوالالمبور مع العديد من الدول، خصوصاً في الشرق الأوسط، في ظل ارتباطات تظهر تباعاً عن تورط دول عربية بعملية التلاعبات الاقتصادية، التي جرت في عهد نجيب عبدالرزاق، وتلمّح العديد من المصادر إلى أن التحقيقات تشير إلى السعودية والإمارات.

إعلان ماليزيا سحب قواتها والبقاء على الحياد تجاه الأزمات في الشرق الأوسط، والقول إنها لم تشارك في الحرب في اليمن وإنما كانت مهمة قواتها إجلاء المواطنين الماليزيين من اليمن، لم يقنع الأوساط السياسية والمراقبين للشأن الماليزي، الذين يربطون الموضوع بتوتر العلاقة مع الرياض وأبوظبي، لا سيما في ظل استمرار الدولتين العربيتين في رفض التعاون مع التحقيقات الماليزية بخصوص قضية الفساد، وعلاقة الدولتين بالقضايا المثارة حول التحويلات والتلاعب المالي في صندوق التنمية الماليزي. وتُظهر الأرقام التي تتكشف تباعاً، عن اتهامات للسعودية والإمارات باستغلال علاقاتهما مع حليفهما نجيب عبدالرزاق، لتحويل ماليزيا إلى حديقة خلفية لتلاعباتهما المالية، فضلاً عن دعمهما لنجيب في وجه خصومه السياسيين، وفي مقدمتهم تحالف الحكم الجديد.

ويشير المراقبون إلى أن الموقف السياسي الماليزي من قضايا الشرق الأوسط هو انعكاس للموقف الشعبي، فالماليزيون يبدون تعاطفاً كبيراً مع الثورة السورية، وكذلك مع غزة، وأيضاً مع اليمنيين ضد الانقلاب الحوثي، لكن لهم نظرة خاصة تجاه السياسة التي تتّبعها السعودية والإمارات في هذه القضايا، والتي يرون أنها تزيد المشاكل تعقيداً، ويعتبرون أن هذين البلدين مع إيران سبب رئيسي في معاناة الشعوب العربية.

تداعيات الفضيحة
وتشير التوجّهات إلى أن مهاتير سيقود ماليزيا لمدة عامين فقط، ثم يسلم الحكم إلى حليفه القوي أنور إبراهيم، الذي من المحتمل أن يقود البلاد في المرحلة المقبلة. ومعروف عن إبراهيم أنه يختلف مع التوجهات السياسية للسعودية والإمارات، والخلاف بينهم في الكثير من القضايا ليس وليد اللحظة، بل يمتد لفترة الثمانينيات والتسعينيات وحتى اللحظة، لذلك فإن إبراهيم يميل إلى المحور الذي تتزعمه تركيا في المنطقة، ويظهر ذلك من خلال التصريحات المتبادلة والمتقاربة بين المسؤولين الأتراك وإبراهيم، فضلاً عن الزيارات التي قام بها الأخير إلى تركيا والتقى خلالها رئيسها رجب طيب أردوغان.

وبات وضع حلفاء السعودية في ماليزيا صعباً للغاية، لا سيما أن اتهام أحدهم في فضيحة الفساد، قد يزجّ بكل حلفاء الرياض وأبوظبي في السجن، وقد تكون لذلك تداعيات على العلاقة بين البلدين، خصوصاً إذا أثبتت التحقيقات تورط السعودية والإمارات في زعزعة الوضع الاقتصادي لماليزيا، الذي وصل إلى أسوأ حالاته بسبب فضيحة الفساد وتجاوزات رئيس الوزراء السابق وإهدار مليارات الدولارات، فضلاً عن تحويل ماليزيا إلى حديقة خلفية لتبييض والتلاعب بالأموال من قبل دول وهيئات وأفراد أثرت بشكل كبير على الوضع الاقتصادي للبلد.

وكان النفوذ السعودي الإماراتي، وفقاً لباحثين ماليزيين، كبيراً في عهد نجيب عبدالرزاق، وحاول الأخير الاستفادة منه في التنكيل بخصومه الذين هم في الأصل على خلاف مع السعودية، وذلك من خلال استغلال الأموال التي دُفعت له من السعودية في الانتخابات قبل الأخيرة في حملته الانتخابية لمواجهة المعارضة. ويرى الباحثون أن توتر العلاقة مع الرياض وأبوظبي ستزداد وتيرته بسبب تداعيات فضيحة صندوق التنمية، وقد يدفع هذا التوتر إلى تقارب كبير بين ماليزيا وقوى أخرى، على غرار التقارب مع تركيا، فيما قد لا تكون العلاقات جيدة مع إيران التي ينظر لها تحالف الحكم الجديد على أنها جزء رئيسي من المشاكل التي يعيشها العالم العربي والإسلامي بسبب تدخّلاتها في شؤون العديد من الدول.

المساهمون