تمخّضت انتخابات البلديات والأقاليم في إسبانيا عن زلزال سياسي غير مسبوق في تاريخ السياسة الإسبانية الحديث، كسر سيطرة ثنائية اليمين واليسار المتحكمة في المشهد السياسي الإسباني، منذ نهاية عهد الجنرال فرانكو قبل حوالى ثلاثين عاماً. وعلى الرغم من احتلاله الصدارة في نتائج الانتخابات، إلا أن الحزب الشعبي الحاكم، بقيادة رئيس الوزراء، ماريانو راخوي، فَقَد مليونين ونصف مليون صوت بالمقارنة مع انتخابات عام 2011 وخسر الأغلبية، التي كان يتمتع فيها في جل المجالس البلدية والإقليمية، في حين اكتسح المرشحون المستقلون المدعومون من حركة "بوديموس" (الساخطون) اليسارية وحركة "سيودادانوس" (المواطنون) ذات التوجه اليميني المعتدل، غالبية المجالس البلدية والإقليمية، وبات بإمكانهم قيادة هذه المجالس في حال تحالفهما ضد النواب اليمنيين والاشتراكيين.
وانعكس الزلزال السياسي في فوز قائمة المرشحة اليسارية والناشطة، آدا كولو، (41 عاماً) المدعومة من حركة "بوديموس"، ببلدية برشلونة، التي ستتحوّل إلى مختبر لسياسة شعبية بديلة يتزعمها خليط من الناشطين الحقوقيين والنقابيين ومناضلي اليسار الراديكالي تمكّنوا من الفوز بنسبة 25 في المائة من الأصوات، بعد حملة انتخابية نشيطة تمكنوا خلالها من حشد تأييد واسع في الأحياء الشعبية والشرائح المتوسطة. ومن الآن فصاعدا سيعتاد الإسبان على كولو كعمدة لبلدية برشلونة، هي التي كانت قبل أعوام قليلة ناشطة اجتماعية تتزعم جمعية تنادي بحق السكن للطبقات الفقيرة والمهاجرين، وتناضل ضد سياسة إفراغ المنازل من السكان غير القادرين على دفع فواتير الماء والكهرباء.
ووصلت ارتدادات الزلزال إلى العاصمة مدريد، حيث تمكنت القاضية المتقاعدة، مانويلا كارمينا، (71 عاماً)، متزعمة قائمة "أهورا مدريد" المدعومة من حركة "بوديموس"، وأيضاً "سيودادانوس"، من احتلال المرتبة الثانية في الانتخابات بنسبة 31 في المائة، خلف مرشحة اليمين التقليدي إسبيرانزا آغوير، المتورطة في عدة قضايا فساد، والتي لن تتمكن من تكوين ائتلاف يضمن لها الأغلبية في المجلس البلدي. وتبدو حظوظ القاضية المتقاعدة، المشهورة بماضيها النضالي ضد نظام فرانكو ودفاعها عن حقوق الإنسان، وافرة في شغل منصب عمدة مدريد، وقطع الطريق على منافستها اليمينية إن نجحت في التحالف مع النواب الاشتراكيين الذين حلوا في المرتبة الثالثة وهو أمر وارد جداً بحسب المراقبين.
وفضلاً عن برشلونة ومدريد، تمكنت قوائم الناشطين المستقلين من الفوز بغالبية مريحة، في عدد كبير من المجالس البلدية في مختلف أنحاء إسبانيا، في زحف يعكس السخط الشعبي العميق على سياسات النخبة السياسية اليمنية والاشتراكية على حد سواء، والتي حكمت إسبانيا بالتناوب منذ نهاية عهد فرانكو الديكتاتوري. كما أن هذا "الاكتساح الشعبي" وُلد من رحم الحركات الاحتجاجية، التي هزت الشارع الإسباني منذ أربعة أعوام احتجاجاً على الأزمة الاقتصادية وعلى الفساد السياسي والمالي، الذي زاد من تهميش الطبقات الدنيا، ودمر الطبقة المتوسطة، وزاد من استفحال ظاهرة البطالة.
ويرى الكاتب والإعلامي المتخصص في الشأن الإسباني، نبيل دريوش، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن نجاح حركتي "بوديموس" و"سيودادانوس" يُترجم الفشل الذريع لحكومة الحزب الشعبي اليمينية في احتواء الأزمة الاقتصادية المستشرية في إسبانيا منذ سنوات، كما أنه عقاب للحكومة بسبب تورط العديد من الشخصيات اليمينية في قضايا الفساد المستفحل في الإدارة ومؤسسات الدولة الإسبانية، وهو كذلك عقاب للنخبة الاشتراكية أيضاً، لأن الكثير من مشاكل إسبانيا ورثها الحزب الشعبي عن الحزب الاشتراكي بعد نجاحه في انتخابات 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2011.
اقرأ أيضاً: فرنسا تترقّب اليسار الأوروبي من "سيريزا" إلى "بوديموس"
غير أن بعض المراقبين يتساءلون إن كان هذا النجاح المدوّي للحركتين الجديدتين في الساحة السياسية الإسبانية ترجمة لتذمر شعبي من السياسات الحكومية، أم أنه مؤشر على تحوّل جوهري في الخارطة السياسية.
يعتبر مدير مركز الأندلس للدراسات الإسبانية، عبدالواحد أغمير، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "ما حدث هو على الرغم من كونه انعكاساً مباشراً للاحتجاجات الشعبية الواسعة ضد النخبة السياسة، بيمينها ويسارها، فهو يعكس انعطافاً جوهرياً في المعطى السياسي الإسباني، لأن الناخب الإسباني سبق وأن منح ثقته لمرشحي "بوديموس" و"سيودادانوس" في انتخابات البرلمان الأوروبي السابقة، وها هو الآن يصوّت بقوة لهما في الانتخابات البلدية والإقليمية، ومن غير المستبعد، بل من المتوقع، أن يستمرا في حصد نتائج إيجابية مستقبلاً، خصوصاً إن تمكّنا من ترجمة شعاراتهما ضد السياسات الحكومية وظاهرة الفساد إلى تدابير سياسية ملموسة في تسييرهما للشأن المحلي، عبر البلديات والمجالس الإقليمية".
والواقع أن المراقبين يُجمعون على أن نتائج هذه الانتخابات البلدية والإقليمية تُمهّد لنتائج مشابهة، على الأرجح، في الانتخابات التشريعية المقبلة، المتوقّع تنظيمها في نهاية العام الحالي. وستعرف تلك الانتخابات لأول مرة مشاركة حركتي "بوديموس" و"سيودادانوس"، إلى جانب الحزب الشعبي اليميني الحاكم، والحزب الاشتراكي العمالي المعارض. ويبقى التساؤل مطروحاً حول طبيعة التحالفات في المرحلة المقبلة، والتي ستظهر مؤشراتها من الآن بالنظر إلى التحالفات، التي ستقام في الأيام المقبلة في المجالس البلدية والإقليمية.
ومن اللافت أن حركة "بوديموس" بدأت سلفاً في فتح قنوات حوار مع نواب المعارضة الاشتراكية، لعقد تحالفات تسد الباب أمام الحزب اليميني الحاكم، إلا أن هناك مَنْ يرى في ذلك مخاطرة قد تغضب القواعد الشعبية اليسارية، التي لا تخفي عداءها لأي تحالف مع النخبة الاشتراكية.
اقرأ أيضاً: اليسار الفرنسي يرحّب بفوز "سيريزا" اليوناني بحذر