كان بعض المسلمين في كل الأقطار يتحرّون آخر ساعات شهر شعبان تطوعاً، ليستطلعوا هلال رمضان، فيتناقلوا خبر رؤيتهم في الأمصار قدر المستطاع. ومنذ وقتٍ مبكر كانت الأخبار لا تصل إلى بعض البلدان؛ فتختلف أيام صيام الحجازيين عن الشوام، والمغاربة، وهكذا! ولكن دائماً كانت تلك الليلة تشهد احتفالات ربما تتشابه مراسمها.
يقال إن مصر شهدت سنة 155 هجري أول محاولة لتنظيم رؤية الهلال عبر المؤسسات الرسمية، حين خرج قاضي القضاة "عبد الله بن لهيعة" إلى جبل المقطم لاستطلاع هلال رمضان، ومنذ ذلك الحين والاحتفال برؤية الهلال حدث شعبي ترعاه الدولة.
من الدكّة للمرصد
في أول الأمر بنيت للقضاة "دكة" على المقطم خصيصاً لهذه الوظيفة، سموها "دكة القضاة". تحولت الدّكة إلى منارة في أيام الفاطميين، فكانت مئذنة "مسجد بدر الجمالي" بالمقطم أول منارة تبنى لمساعدة القضاة في رصد الهلال الوليد. ثم تحول المرصد في العصر العثماني، في بعض السنوات، إلى مدرسة المنصور قلاوون ومنارته الشاهقة، فإذا ما فرغوا من رؤيتهم توجهوا إلى المحكمة الصالحية، وهي تقع في مواجهة مدرسة المنصور، فيعلن المحتسب للناس نتيجة الرؤية، ويحدد أول أيام شهر رمضان. ويقدم الدعوات والتهاني للخليفة والأمراء والأعيان ولعامة الشعب، فتنطلق الزغاريد فرحاً بقدوم الشهر المبارك، ويوزع الأهالي الحلوى والهدايا.
إقرأ أيضاً: ليلة "الحضرة"
في أيام الخديوي عباس حلمي الثاني كان الاحتفال بالرؤية يقام في المحكمة الشرعية بباب الخلق، قبل أن يتحول إلى دار الإفتاء بالدرّاسة حالياً، إذ يبدأ الاحتفال بالقرآن الكريم، ثم غناء بعض التواشيح لأحد المنشدين، ثم يعلن مفتي الديار المصرية في كلمة قصيرة نتائج المراصد التي حاولت رؤية الهلال رؤية شرعية، وما إذا كان الغدُ أول شهر رمضان أم أنه المتمم لشهر شعبان.
مظاهر كرنفالية
كعادة الفاطميين في تحويل المناسبات الشعبية إلى مظاهر كرنفالية؛ اصطنع الفاطميون فكرة "موكب الرؤية" أو "زفة الهلال"، ما يصاحبها من فوانيس وقناديل وأغان للأطفال. وكانوا إذا تحققوا من رؤية الهلال أضيئت الأنوار على الدكاكين وفي المآذن وتضاء المساجد. أبقى المماليك على ذلك الاحتفال بل طوروه، خاصة مع تنامي التصوّف في ذلك العصر. كما انتظمت الفكرة إلى عهد العثمانيين. وقد ظلّت عادة الموكب قائمة إلى وقت قريب.
تمثل الاحتفال العثماني في اجتماع القضاة الأربعة (الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي)، والمحتسب، وبعض الفقهاء، والأعيان، والدراويش بالمدرسة المنصورية، ثم إنهم يركبون جميعا متجهين إلى موضع رصد الهلال الكائن في جبل المقطم، فإذا ثبتت الرؤية؛ يعود المحتسب إلى بيته في موكب شعبي حافل في ليلة مضيئة مشهودة، وتستمر الإضاءة طوال ليالي الشهر لدرجة أن وصفها تقي الدين المقريزي (1364م - 1442م) بأنها: "ليالي الوقود"؛ لكثرة قناديلها وزيوتها!
بعض المؤرخين تحدث عن مهنة قديمة كانت تسمى "القندلجية"، وهم قومٌ يزيدون على مائتي شخص، يدورون على واجهات البيوت والدكاكين في رمضان يوقدون فوانيسها ومشكاواتها ويصلحونها حتى تظل الشوارع مضاءة طوال الشهر.
حكايات المؤرخين
يصف ابن إياس (1448 - 1523م) ليلة الرؤية في عصره فيقول في كتابه "بدائع الزهور": "في ليلة رؤية الهلال حضر القضاة الأربعة بالمدرسة المنصورية وحضر الزيني بركات بن موسى المحتسب. فلما ثبتت رؤية الهلال وانفض المجلس ركب الزيني بركات من هناك فتلقاه الفوانيس والمنجنيق والمشاعل والشموع الموقدة فلم يحص ذلك لكثرته ووقدوا له الشموع على الدكاكين، وعلقوا له التنانير والأحمال الموقدة بالقناديل من الأشاطين إلى سوق مرجوش إلى الخشابية إلى سويقة اللبن إلى عند بيته".
أما الجبرتي (1756 – 1825م) فيقول في "عجائب الآثار": "في ليلة الرؤية كانت مصر تتزين بآلاف القناديل والمصابيح في تلك الليلة، ويقوم كل شخص بتزيين واجهة حانوته وينتظر كل شخص مع خلانه احتفال موكب المحتسب، فكانت القناديل تضاء في الأسواق والشوارع". ويضيف الجبرتي الذي عاصر أيام الاحتلال الفرنسي لمصر؛ فيشير إلى أن الفرنسيين تفاعلوا مع احتفالات الناس برؤية الهلال؛ فيقول: "كان الناس يخرجون في موكب يضم شيوخ الحرف وتطلق المدافع والصواريخ من القلعة والأزبكية". وهي بالطبع مدافع وصواريخ فرنسية!
لكن ذلك التسامح الفرنسي لم يكن مستمراً، فبعض السنوات صادف فيها رمضان عنفاً ضد المصريين فلم يحتفلوا بموكب الرؤية، لذلك قال الجبرتي: "شهر رمضان المعظم سنة 1216 استهل بيوم الأربعاء ولم يعمل فيه (شنك الرؤيا) على العادة، خوفا من عربدة العساكر. والمحتسب كان غائبا، فركب كتخداه بدلا عنه بموكبه فقط، ولم يركب معه مشايخ الحرف، فذهب إلى المحكمة، وثبت الهلال تلك الليلة، ونودي بالصوم من الغد"!
موكب الدراويش
مع إسناد رؤية الهلال لدار الإفتاء المصرية في أواخر القرن التاسع عشر، صار الاحتفال يقام سنوياً بعد غروب شمس التاسع والعشرين من شعبان، وبعد ظهور الراديو ثم التلفزيون أصبح الناس ينتظرون سماع تحديد الشهر عبر تلك الموجات، لكن ذلك لم يمنع الأطفال والأهالي من الاحتفال بفوانيسهم وأغانيهم الموروثة.
الطرق الصوفية لا تزال تهتم بالموكب أو الزفة، حيث تخرج جماعات الدراويش بأعلامها وأناشيدها بعد عصر ليلة الرؤية من مسجد "سيدي صالح الجعفري" بالدراسة، حتى مسجد الإمام الحسين في احتفالية سنوية إلى اليوم.
شهدت السنوات الماضية تراجعاً في الفرحة الشعبية بهلال رمضان، بدءاً من تولي الشيخ "سيد طنطاوي" منصب الإفتاء، حين دعم بقوة فكرة الاعتماد على الحسابات الفلكية، فأصبح الناس يعلمون أول أيام رمضان وشوال دون انتظار لرؤية الهلال وإعلان نتيجته في هذا الاحتفال التقليدي.
يقال إن مصر شهدت سنة 155 هجري أول محاولة لتنظيم رؤية الهلال عبر المؤسسات الرسمية، حين خرج قاضي القضاة "عبد الله بن لهيعة" إلى جبل المقطم لاستطلاع هلال رمضان، ومنذ ذلك الحين والاحتفال برؤية الهلال حدث شعبي ترعاه الدولة.
من الدكّة للمرصد
في أول الأمر بنيت للقضاة "دكة" على المقطم خصيصاً لهذه الوظيفة، سموها "دكة القضاة". تحولت الدّكة إلى منارة في أيام الفاطميين، فكانت مئذنة "مسجد بدر الجمالي" بالمقطم أول منارة تبنى لمساعدة القضاة في رصد الهلال الوليد. ثم تحول المرصد في العصر العثماني، في بعض السنوات، إلى مدرسة المنصور قلاوون ومنارته الشاهقة، فإذا ما فرغوا من رؤيتهم توجهوا إلى المحكمة الصالحية، وهي تقع في مواجهة مدرسة المنصور، فيعلن المحتسب للناس نتيجة الرؤية، ويحدد أول أيام شهر رمضان. ويقدم الدعوات والتهاني للخليفة والأمراء والأعيان ولعامة الشعب، فتنطلق الزغاريد فرحاً بقدوم الشهر المبارك، ويوزع الأهالي الحلوى والهدايا.
إقرأ أيضاً: ليلة "الحضرة"
في أيام الخديوي عباس حلمي الثاني كان الاحتفال بالرؤية يقام في المحكمة الشرعية بباب الخلق، قبل أن يتحول إلى دار الإفتاء بالدرّاسة حالياً، إذ يبدأ الاحتفال بالقرآن الكريم، ثم غناء بعض التواشيح لأحد المنشدين، ثم يعلن مفتي الديار المصرية في كلمة قصيرة نتائج المراصد التي حاولت رؤية الهلال رؤية شرعية، وما إذا كان الغدُ أول شهر رمضان أم أنه المتمم لشهر شعبان.
مظاهر كرنفالية
كعادة الفاطميين في تحويل المناسبات الشعبية إلى مظاهر كرنفالية؛ اصطنع الفاطميون فكرة "موكب الرؤية" أو "زفة الهلال"، ما يصاحبها من فوانيس وقناديل وأغان للأطفال. وكانوا إذا تحققوا من رؤية الهلال أضيئت الأنوار على الدكاكين وفي المآذن وتضاء المساجد. أبقى المماليك على ذلك الاحتفال بل طوروه، خاصة مع تنامي التصوّف في ذلك العصر. كما انتظمت الفكرة إلى عهد العثمانيين. وقد ظلّت عادة الموكب قائمة إلى وقت قريب.
تمثل الاحتفال العثماني في اجتماع القضاة الأربعة (الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي)، والمحتسب، وبعض الفقهاء، والأعيان، والدراويش بالمدرسة المنصورية، ثم إنهم يركبون جميعا متجهين إلى موضع رصد الهلال الكائن في جبل المقطم، فإذا ثبتت الرؤية؛ يعود المحتسب إلى بيته في موكب شعبي حافل في ليلة مضيئة مشهودة، وتستمر الإضاءة طوال ليالي الشهر لدرجة أن وصفها تقي الدين المقريزي (1364م - 1442م) بأنها: "ليالي الوقود"؛ لكثرة قناديلها وزيوتها!
بعض المؤرخين تحدث عن مهنة قديمة كانت تسمى "القندلجية"، وهم قومٌ يزيدون على مائتي شخص، يدورون على واجهات البيوت والدكاكين في رمضان يوقدون فوانيسها ومشكاواتها ويصلحونها حتى تظل الشوارع مضاءة طوال الشهر.
حكايات المؤرخين
يصف ابن إياس (1448 - 1523م) ليلة الرؤية في عصره فيقول في كتابه "بدائع الزهور": "في ليلة رؤية الهلال حضر القضاة الأربعة بالمدرسة المنصورية وحضر الزيني بركات بن موسى المحتسب. فلما ثبتت رؤية الهلال وانفض المجلس ركب الزيني بركات من هناك فتلقاه الفوانيس والمنجنيق والمشاعل والشموع الموقدة فلم يحص ذلك لكثرته ووقدوا له الشموع على الدكاكين، وعلقوا له التنانير والأحمال الموقدة بالقناديل من الأشاطين إلى سوق مرجوش إلى الخشابية إلى سويقة اللبن إلى عند بيته".
أما الجبرتي (1756 – 1825م) فيقول في "عجائب الآثار": "في ليلة الرؤية كانت مصر تتزين بآلاف القناديل والمصابيح في تلك الليلة، ويقوم كل شخص بتزيين واجهة حانوته وينتظر كل شخص مع خلانه احتفال موكب المحتسب، فكانت القناديل تضاء في الأسواق والشوارع". ويضيف الجبرتي الذي عاصر أيام الاحتلال الفرنسي لمصر؛ فيشير إلى أن الفرنسيين تفاعلوا مع احتفالات الناس برؤية الهلال؛ فيقول: "كان الناس يخرجون في موكب يضم شيوخ الحرف وتطلق المدافع والصواريخ من القلعة والأزبكية". وهي بالطبع مدافع وصواريخ فرنسية!
لكن ذلك التسامح الفرنسي لم يكن مستمراً، فبعض السنوات صادف فيها رمضان عنفاً ضد المصريين فلم يحتفلوا بموكب الرؤية، لذلك قال الجبرتي: "شهر رمضان المعظم سنة 1216 استهل بيوم الأربعاء ولم يعمل فيه (شنك الرؤيا) على العادة، خوفا من عربدة العساكر. والمحتسب كان غائبا، فركب كتخداه بدلا عنه بموكبه فقط، ولم يركب معه مشايخ الحرف، فذهب إلى المحكمة، وثبت الهلال تلك الليلة، ونودي بالصوم من الغد"!
موكب الدراويش
مع إسناد رؤية الهلال لدار الإفتاء المصرية في أواخر القرن التاسع عشر، صار الاحتفال يقام سنوياً بعد غروب شمس التاسع والعشرين من شعبان، وبعد ظهور الراديو ثم التلفزيون أصبح الناس ينتظرون سماع تحديد الشهر عبر تلك الموجات، لكن ذلك لم يمنع الأطفال والأهالي من الاحتفال بفوانيسهم وأغانيهم الموروثة.
الطرق الصوفية لا تزال تهتم بالموكب أو الزفة، حيث تخرج جماعات الدراويش بأعلامها وأناشيدها بعد عصر ليلة الرؤية من مسجد "سيدي صالح الجعفري" بالدراسة، حتى مسجد الإمام الحسين في احتفالية سنوية إلى اليوم.
شهدت السنوات الماضية تراجعاً في الفرحة الشعبية بهلال رمضان، بدءاً من تولي الشيخ "سيد طنطاوي" منصب الإفتاء، حين دعم بقوة فكرة الاعتماد على الحسابات الفلكية، فأصبح الناس يعلمون أول أيام رمضان وشوال دون انتظار لرؤية الهلال وإعلان نتيجته في هذا الاحتفال التقليدي.