[تُعنى الفنانة الفلسطينية، ريم الكيلاني، المولودة في مدينة مانشيستر، شمال بريطانيا، عام 1963، لأبوين فلسطينيين، بتوثيق الذاكرة الفلسطينية، وحملها إلى العالم، عبر ألحانها وكلمات أغنياتها. تتنقل بين المخيمات الفلسطينية، في الأردن ولبنان وسورية، تحصي الأغنيات التراثية، من الذاكرة الشفاهية الحية، وتنصت لأحاديث الجدات وتجمع رواياتهن، عن أحداث ومناسبات كل أغنية.
عملت الكيلاني باحثة علمية في علوم البحار في "معهد الكويت للأبحاث العلمية"، بعد أن أنهت دراستها من "جامعة الكويت"، في مجال علوم الأحياء والحاسوب الإلكتروني.
ومنذ عادت إلى بريطانيا، تعكف على دراسة الموسيقى، وكان باكورة إنتاجها الفني الأول، ألبوم "الغزلان النافرة: أغان فلسطينية من الوطن الأُم ومن الشتات" (2006)، الذي قدمها كصوت موسيقي خاص من فلسطين.
تعمد الكيلاني إلى توريط المستمع، في أجواء النص والزمان والمكان، عبر شرح مكتوب مع الألبوم، بالإضافة إلى الكلمات مترجمة إلى الإنكليزية، وبالتالي، تحاول أن تتفادى احتمالات التلقي، المتنوع، مع المستمع الأجنبي المختلف، خاصة وأن أغنياتها ذات طابع ثقافي متمايز، وشديد الخصوصية. التراث والهوية والشتات، عناصر تستمد منها ريم كيلاني طاقتها الفنية، وموضوعات أغنياتها، لكن بصورة عصرية، فتمزجها بموسيقى الجاز والبلوز، وتعيد توزيعها وإنتاجها من جديد.]
* إلى أي حد تعنى كيلاني بترميم الذاكرة العربية والإنسانية، وسد الفجوات العميقة داخلها؟
- لا أفصل ما بين الفردي والجماعي، هذا بالنسبة لي هو المفتاح. بمعنى أن المحافظة على الأغاني الفلسطينية، لا تقل أهمية عن أكل الزعتر مع الزيت، صباح كل يوم. فالجهد هنا هو نوع من الأنانية أكثر من أن يكون تضحية، أو تفوقاً أخلاقياً. أنانيتي الفردية في الحفاظ على ما تبقى من هويتي، بل وعقلي، هي التي تدفعني للدفاع عن كينونتي الجماعية، بما فيها التراث والغناء.
* ما توصيفك لفن المقاومة، وتعريفك له، وصلاحية الفن لأداء دور سياسي، لا يستنزف جمالياته أو يحوله لدور وظيفي نفعي ومحدود؟
- للكاتب البريطاني جورج أورويل (1903-1950) جملة شهيرة مفادها أن مقولة الفصل بين الفن والسياسة هي مقولة سياسية بحد ذاتها. عندما تطلب مني أن أفصل فني عن السياسات المحيطة بي، تكون أنت المُسَيّس ولست أنا. لذا، الفن شأنه شأن أي منهج حياة له الحق في لعب دور في التعبير عن السياسة وكذلك في طلب التغيير فيها. أما بالنسبة للجماليات، سواء وجدت أم لم توجد، لأن الكثير منها قد يكون غير موضوعي أو وفقًا لذوق معين، فلكل فنان الحق في التعبير عن المقاومة، بشرط أن لا يطغى الإنجاز الوطني على الإنجاز الفني بحد ذاته، وهذا هو "السهل الممتنع". وأكبر مثل على هذه الظاهرة هو الفنان الكبير سيد درويش. لسنين عديدة طغت مقولته الوطنية على إنجازاته الموسيقية.
* بالرغم من طبيعة الأغنيات التي تحمل مرارة وسخرية، لكنها تعمد إلى شحذ الإرادة نحو الحياة وجرعة من التفاؤل. هل ما زال الواقع العربي ومآلاته التي تشهدينها اليوم يبعث داخلك على هذه التوليفة الفنية والحياتية معًا؟
- كثيراً ما تأتي لي انتقادات بأنني، بالإضافة إلى الحزن أثناء أداء الأغاني المؤلمة، أظهر فرِحة ومرِحة على المسرح. وردي هو تماماً ما أقوله دومًا للإعلام الغربي الذي يسألني باستفزاز إذا كنت أحب أن أموت من أجل فلسطين. وجوابي لهم دائما هو أنني أيضاً أحب أن "أحيا من أجل فلسطين". كذلك، بالنسبة للصهاينة، الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، وأنا بهذا أفَضِّل أن أكون فلسطينية "غير جيدة" تحتفل في الحياة على المسرح، وتقلد الأمهات الفلسطينيات في نزقهنّ وحزنهنّ وفرحهنّ وغضبهنّ.
* سافرتِ إلى الأردن ولبنان وفلسطين وسورية، وكانت ثمة زيارات إلى المخيمات الفلسطينية التي تناوبتِ خلالها على لقاءات بسيدات فلسطينيات وتوثيق الأغنيات التراثية والمحلية من ذاكرتهم الشفهية، قبل أن نتدثر وكان من بينها: "يا طالعين الجبل" التي غنتها النسوة من الناصرة في الجليل لأزواجهن أثناء حبسهم في السجون العثمانية أثناء صعودهن للجبل. حدثينا عن تلك التجربة.
- يعود الفضل الكبير في نشر أغنية "يا طالعين الجبل" على نطاق واسع للفنانة الفلسطينية الراحلة ريم بنا (1966-2018)، التي نوجه إلى ذكراها الصامدة التحية عبر هذا اللقاء. وكذلك أيضًا يعود الفضل في نشر هذه الأغنية إلى الموسيقار النصراوي الأرمني ميشيل درملكنيان (سنة الوفاة 2009)، الذي أعاد توزيعها بطريقة كورالية مبدعة. بالنسبة للأغاني الفلسطينية القديمة التي ساهَمتُ شخصيا بتسجيلها وتوثيقها ونشرها، أذكر على سبيل المثال "قطعن النصراويات مرج ابن عامر"، وكذلك الأغنية العتيقة "عذب الجمّال قلبي"، والأخيرة من كثرة أهميتها تناولها الراحل توفيق زياد في إحدى دراساته. أما بالنسبة لتجربة التسجيلات الميدانية للأمهات الفلسطينيات، فهي كانت "استثنائية" كما تقول لسبب بسيط جدا، هو أنني كنت أزور النسوة، بما فيهم أقارب والدتي في مدينة الناصرة في الجليل الأسفل، وكأنها زيارة اجتماعية يعود تاريخها إلى ما قبل عام 1948. أتخيل أنني إنسانة كانت تعيش في فلسطين في أوائل القرن العشرين وهي تزور أخواتها وجاراتها وخالاتها وعماتها لتتبرك بهن ولتحفظ منهن الأغاني والأشعار والقصص و"الفُراقِيّات" و"الفَرايحِيّات". بساطة اللقاءات معهن هي التي وضعَت أمامي أغاني معتقة من عبق التراث القديم كتلك التي ذكرتُها في هذا الإجابة.
* برأيك، هل هناك من يدعم التراث الفلسطيني ويحافظ عليه أمام ما يجري الآن من سرقات إسرائيلية عبر إعادة تكوين كلمات جديدة لألحان في التراث العربي والفلسطيني، وترجمتها للعبرية مثل: "يا مريومة بالهدومة سبع هدوم مفَصَّلات"؟
- بالطبع، هناك الكثير الكثير ممن يحافظ على التراث الفلسطيني، بدعم وحتى من غير دعم. وما عليك سوى متابعة إنجازات "مركز الفن الشعبي" في البيرة، وكذلك "فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية"، وغيرهم من الفرق والمجموعات التي أبدعت في الحفاظ على تراثنا، وهذا على سبيل المثال لا الحصر. أما بالنسبة للدعم "الرسمي"، عدا عن أنني لا أعترف بسلطة أوسلو من أصله، فالدعم الرسمي الفلسطيني بالطبع غير كاف. وآن لنا الأوان أن نتعلم من الروس، على سبيل المثال، بأن دعم الفنون من جهات رسمية وغير رسمية هو منهج أساسي في تطبيق الرؤية السياسية، والمقاوِم منها بالذات. ما زلنا في صراعنا مع الصهاينة نركز على عاملين: الدين والأرض. ونهمل ما يجمع ما بين الدين والأرض، وهو الإبداع الجماعي لشعب مقاوِم.
أما بالنسبة لسرقة الأغاني من قبل الصهاينة، نعم "يا مريومة" مثال جيد، وغيرها كثير. كما أنهم يهتفون في المباريات الرياضية بهتافات تشجع فريقهم المفضل على لحن "الدلعونا" بكلماتٍ عبرية. إدوارد سعيد كان دوما يحذرنا من أن الصهاينة لا وقائع لهم، ولهذا هم معنيين في خلق وقائع على الأرض ليثبتوا ما يسموه "استمرارية وجودهم" على أرض فلسطين التاريخية، بما فيها خلق "حقيقة" الجدار العازل. النقطة الثانية التي نبهنا إليها إدوارد سعيد هي أن للفلسطيني "الحق في سرد روايته". والفنون الإبداعية هي من أسرع الطرق لانتشار سردية الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه.
* أثر المدن المقهورة حاضر بقوة في أغنياتك، يرافقه بنفس الدرجة انحياز للمنسيين مثل التراث النوبي في مصر وتقصي أثر موسيقى سيد درويش ودورها في ثورة 1919 وفي سورية ومصر وتركيا، وهي تجربة من المفترض أن تصدر في ألبوم 2019. ما الذي تكشفينه داخل هذا العالم وانتمائك له بكل هذا الشغف؟
- كيف لي ان أتوقع من الآخر أن يتفهم معاناتي إذا لم أتفهم معاناته في نفس الوقت؟ عملية منطقية بسيطة لا تحتاج إلى تفكير طويل. "أنسنة" الفلسطيني ونضاله يجب ألا تُفصَل عن أي صراع لأي شعب للحصول على نفس حقوقه التي نطالب بها نحن. وفي نفس الوقت، بالنسبة للتراث النوبي على سبيل المثال، فهو تراث جميل مبدع كشعبه، حتى لو لم يكن منسيا. ولكن الظلم الذي تعرض له النوبيون يدفعنا إلى تقدير جمال تراثهم أكثر وإلى الإيمان بنضالهم كما نؤمن بنضالنا نحن. أما بالنسبة لأغاني سيد درويش وثورة 1919، تلك كانت مرحلة مفصلية في بداية القرن العشرين، وهي مرحلة تحرر مصر من الاستعمار البريطاني. لهذا، كان الثوار عام 2011 ينشدون نفس الأغاني الدرويشية التي أنشدها أجدادهم أثناء ثورتهم قبل مئة عام. وبالنسبة لسورية، فهي بالنسبة لي "الوطن الأم"، وتراثها الحضاري والموسيقي وحتى "المطبخي" هو النهر الأكبر الذي يروي التراث الفلسطيني. كيف لي أن أتكلم وأقول "فلسطين هي البوصلة"، وأنا حسب رؤيتي أن الإنسان السوري العادي يعاني من نظام يقتله باسم فلسطين؟ هذا لا يعني بالطبع أنني مع الدواعش ونفر من المعارضة من المطبعين مع الصهاينة. أنا أتكلم عن معاناة الفلسطيني مقابل معاناة السوري؛ كلاهما جزء لا يتجزأ مني. أما في تركيا، أتعاون بانتظام مع فريق موسيقي نشيط باسم "أغاني الأخوة" الذي يعنى بدراسة وتوثيق وتقديم التراث الغنائي لكل المجتمعات في الأناضول، بما فيها تلك الناطقة باللغة العربية. كل هذ الحقائق الرائعة، المؤلم منها والمفرح، كيف لها ألا تخلق في داخلي كل هذا "الشغف" الذي تذكره في سؤالك أعلاه؟
* كيف استطاعت ريم كيلاني بين هذه الاختيارات أن تجدد جمهورها وتنوعه عبر تفادي فكرة الاعتماد على المظلومية وقبول كل ما هو فلسطيني ومع الشعب العربي المظلوم لمجرد توليد فكرة التعاطف؟
- سياستي منذ أول يوم بدأت أغني فيه لفلسطين حين كنت في سن الرابعة من عمري هي، عن وعي أو لاوعي، أن نثبت أن مقولتنا الفلسطينية هي "فعل" وليست مجرد "رد فعل". هناك أيضًا نقطة منطقية تقف واضحة صارخة أمام أعيننا: كيف لنا أن نغني عن الطيور والأشجار طالما الاحتلال الصهيوني يستمر في إطلاق النار على الطيور وإرسال قطعان المستوطنين لاقتلاع أشجار الزيتون العتيقة؟ ولكني تمكنتُ من حل المعضلة عندما احتَجّ وفد إسرائيلي في أحد المؤتمرات على دعوة المؤتمر لي للغناء في حفل الختام. وقتها وضَحَت أمامي الصورة، وهي أن حتى أغاني الحُب والعشق والورود والطيور تخيفهم... تخيفهم وتذعرهم وتهز كيان وقائعهم الزائفة. لذا، طبعًا، وجب علينا أن نتناول المظلومية، ولكن في نفس الوقت أن نتناول كذلك كل التراث الذي كان موجودًا قبل تأسيس الكيان الصهيوني. نحن "فعل" ولسنا مجرد "رد فعل"، وهذا هو أكبر مسمار في نعش الصهيونية.
* أعرج معك على واقعنا بعد الربيع العربي، خصوصًا أنك كنت موجودة في مصر إبان اندلاع الثورة. هل أعادت تشكيل أغنياتك تلك الثورات، وجددت من اختياراتك، في ممرات مُغايرة، خصوصًا في القضية السورية، التي تعتبرينها جزءًا من انتمائك باعتبارها جنوب فلسطين كما تصفين دومًا؟
- أكثر ما لفت انتباهي على سبيل المثال في حالة الثورة المصرية التي أكرمني الله بأنني كنت أتعلم عزف العود أثناء نفس الفترة في القاهرة فكُتِب لي أن أحضرها، هو انفجار المواهب الشابة التي نبتت من كل مكان، من فرقة "اسكندريلا" إلى "مشروع الكورال" وغيرهم كثير. بالنسبة لي شخصيًا، أنا أعمل على مشروع عن سيد درويش منذ سنوات، ورفضت أن أصدره أثناء أو بعد الثورة مباشرة، لسببين: أولهما أن الألبوم وبكل موضوعية غير جاهز من الناحية الفنية، وثانيهما رفضي لصدور ألبوم يستغل نجاح الثورة المصرية مباشرة، بالذات أنني غير معروفة في مصر لأني لم أدعَ لهذه اللحظة للغناء فيها للأسف. ولكني، وبالذات بسبب الثورة، أعدتُ تسجيل أكثر من أغنية وأكثر من مرة، وأعدتُ كتابة الكتيب المرافق للألبوم ثلاث مرات على الأقل. فبالإضافة أيضًا لعدم توافر الوقت الكافي للسفر إلى مصر لإتمام المشروع، وكذلك لعدم توافر الدعم المادي، المشروع ما زال عالقًا، ولكن من حيث المُنتج فقط. أما الأغاني، فأنا قدمتُ وما زلت أقدم أغلبها في الحفلات الحية والمقابلات التلفزيونية. باختصار، الثورات تفَجِّر المواهب وتجعل الفنان يعيد النظر في إنتاجه وإبداعه، وهذا لوحده دليل على أن الثورات تستمد قواها من الفن وتساهم أيضا في تطور الفن - علاقة تكافل كاملة مكملة.
* وهل أنت في بريطانيا اليوم ضد أي إسرائيلي حتى لو كان معارضًا ورفض التطبيع الثقافي والفني؟
- الفنانون والمسارح والجهات الوطنية في العالم العربي لا يستوعبون للأسف مدى خطورة كل من يدعي "معارضته" للصهيونية من "الإسرائيليين". أولًا، يجب الفصل ما بين اليهودي والصهيوني/الإسرائيلي، وهذا شيء لن أتنازل عنه. الكثير من رفاقنا المناضلين هنا في الغرب يهود علمانيون أو يساريون أو من يسمون أنفسهم "إنسانويين"، بل وحتى متدينين ممن يعارضون الصهيونية قلبا وقالبا، وممن لم يسكنوا أرض فلسطين التاريخية أبدا، وبالتالي لم يتربوا على عقلية المستعمِر والمستوطِن والآخِذ والآمِر والناهي. هؤلاء نعتبرهم جزءًا منا، وما يمشي عليهم من الحذر والحيطة يمشي على أي أحد فينا من عرب وفلسطينيين، فالخيانة لا عرق ولا دين لها. أما بالنسبة لـ "الإسرائيلي" فحذار وألف حذار. أذكر مرة جملة قالها لي رفيق يهودي غير صهيوني: "أنتم الفلسطينيون متسامحون معنا زيادة عن اللزوم". بالنسبة لي، طالما الشخص وُلد وتربى في ما يسمى "إسرائيل"، وجب علينا الحذر الشديد، بدلا من "الاندلاق" غير المشروط والمهرول وراء شفقة "الرجل الأبيض" علينا. أتكلم عن تجربة شخصية لأننا الفنانين الناشطين سياسيا هنا في بريطانيا كان لنا تعامُل مع بعض من الإسرائيليين ممن يدعون "معاداة الصهيونية"، وسرعان ما انكشفوا، وكان لي الشرف أن أكون من أوائل من كشف بعضًا من هكذا عينات من "المسيح الدجال". ما هي مواصفات "الدجال" في الأصل؟ مقدرته الخارقة على إقناعك بأنه إنسان صادق، هذه هي موهبتهم الكبرى. ولكن أن يُصدِّق الناس في العالم العربي وفي الأوساط المثقفة والوطنية هؤلاء الإسرائيليين بدون حتى التوجه لنا لمن عمل معهم في الغرب وكشفهم على أصولهم، هنا تكمن المصيبة! فوقَعنا بدورنا ما بين مطرقة الشبيحة ممن اتهمونا بالعمالة وبأن الإسرائيلي "عربي أكثر منكم"، وما بين سندان الهيئات الثقافية والوطنية في العالم العربي التي تجاهلتنا تجاهلا تاما، ولم تكلف نفسها حتى عناء سؤالنا أبسط الاستفسارات. باختصار، وفي حالات نادرة شديدة الندرة مثل المؤرخ إيلان بابيه، سأتعامل مع إي إسرائيلي يدعي معاداة الصهيونية بالتجاهل التام. الضرر الذي أصاب صفوف المقاومة الثقافية في الغرب نتيجة ولو تفاحة واحدة فاسدة من هؤلاء هو ضرر كبير، ضرر ما زلنا نحاول إصلاحه هنا في الغرب. كما يقول أطباء العائلة للأطفال هنا في بريطانيا: When in doubt, keep it out
* أختم معك بفلسطين التي وصفتيها مرة: "كلما أذهب إلى فلسطين أعود مريضة. جمالها يؤلمني"... تحمل عبارتك مضمونًا شعريا كثيفًا، وتحمل تأويلات عديدة. هل من عود أبدي لفلسطين لا يحمل ذلك الألم الذي ربما يبعثه خدش الاحتلال واستنزافه لها؟
- للأسف، وأقولها بألم شديد، أكثر مكان أشعر فيه بالغربة الحارقة هو في فلسطين. لا أعرف السبب حتى الآن، ولكن منذ طفولتي كلما ذهبت لزيارة فلسطين أصاب إما بمرض أو التهاب أو اكتئاب. كإنسانة فلسطينية مولودة في بريطانيا وتعيش فيها الآن، وترَبَّت ونشأَت وتعلمت في الكويت، هذا يعني أن بريطانيا والكويت هما أيضًا جزءًا من هويتها الثقافية. سنوات النشأة والدراسة في الكويت كان لها أثر كبير، وبسببها وبسبب موقف الكويت الداعم لفلسطين عبر السنين، دائما أقول إنني تعلمت حب فلسطين من نشأتي في الكويت. كويت السبعينيات أيام ناجي العلي وغسان كنفاني والشيخ فهد الأحمد الصباح الذي جاهد وحارب من أجل فلسطين والدكتور المناضل أحمد الخطيب من مؤسسي حركة القوميين العرب. قبل أيام، قابلتُ زميلًا للدراسة من فلسطينيي الكويت لم أره منذ 30 عامًا. كلانا لاحظ أن حتى لهجتنا هي لهجة "فلسطينية-كويتية" موَحَّدة. وفعلًا، كلما زرتُ فلسطين، الناس تسألني عن مصدر هذه اللهجة، وفورًا أشعر بأنهم يعاملوني كغريبة. وللأسف، هناك حتى فنانين من فلسطين ممن يقولون لنا إن فننا "ليس فلسطينيا بحتًا" لأننا نعيش في الشتات، وكأنني اخترتُ أو أولد في مانشيستر وأن أترعرع في الكويت! موضوع غربتي الداخلية في فلسطين أقلقني لسنين وسنين، ولكنه أيضًا لعب دورًا فعالًا في عدم مساومتي كناشطة سياسية. كما ذكرتُ من قبل أن حتى الغناء عن العصافير والأشجار يخيف الصهاينة، اكتشفتُ أيضًا من خلال غربتي داخل وخارج فلسطين، بأن فلسطين معي أينما حَللتُ، وهذا يخيف الصهاينة أكثر لدرجة الجنون، ورأيت ذلك بأم عيني هنا في الغرب من انفعالات هستيرية لهم في المناظرات السياسية. وهذا لأن صهيونيتهم تكمن في استحواذ مرضي على قطعة جغرافية، وبدونها يعتقدون أن لا وجود لهم. بينما بالنسبة لي، عندما أغني أغنية أفراح من يعبَد، بلد الوالد، وأغنية حُب من الناصرة، بلد الوالدة، فأنا مزروعة في مرج ابن عامر الذي يصل ما بين جنين والناصرة، حتى لو كنت أقدّم هذه الأغاني على مسرح في لندن أو في شانغهاي. أرى في هذا قوة ما بعدها قوة من حيث الانتماء ومن حيث التأكيد على وجوديتي الفلسطينية. فدعونا لا ننسى أن حسد وطمع الغاصب الصهيوني هو ليس بخصوص القطعة الجغرافية وحسب، ولكن جشعهم الأكبر هو بخصوص المقولة التاريخية والتراثية التي تكسو هذه الأرض، وبدونها لا قيمة لهذه الأرض ببشرها وحجرها. فوجدتُ في ألم غربتي دواءً يساعدني على التمسك بهويتي، وفي الوقت ذاته على التواصل مع الآخَر الذي يعاني ذات المعاناة، والذي يحن لتهليلة من أمه سواء كانت التهليلة فلسطينية أو نوبية أو حتى إنكليزية.