رسّخ السنباطي أسلوبه اللحني خلال الثلاثينيات والأربعينيات، وهي الفترة التي ألف فيها مقطوعاته الموسيقية (الآلية). لم نعرف من 38 مقطوعة موسيقية وضعها السنباطي سوى أربعة أعمال، أشهرها لونغا فرح فزا.
منذ ظهور الإذاعة المصرية عام 1934، كان السنباطي يقدّم لها، من خلال حفلات غنائية، مقطوعات موسيقية من تأليفه، وأغنية بصوته من نفس مقام المقطوعة. نتساءل هنا: ما سبب اختفاء تلك الأعمال؟ مع أنها كانت في حفلات مسجلة خاصة بالإذاعة المصرية. ما يعني، غالبًا، أنها محفوظة ضمن أرشيف الإذاعة.
من أحد أعداد مجلة الإذاعة المصرية في الثلاثينيات (العربي الجديد)
من المعروف أن السنباطي حاول أن يشق اسمه في عالم الغناء، وقبل انتقاله إلى القاهرة أطلق عليه "بلبل المنصورة". مع هذا، نحن لا نعرف السياق الذي قدّم فيها تلك الالحان في حفلات الإذاعة المصرية. هل كان عرفًا للإذاعة المصرية تعاقدت خلاله مع ملحنين لتقديم مقطوعات للموسيقى الآلية إضافة للأغاني؟ من دون وجود مؤلفات لملحنين اخرين في تلك الفترة يجعل هذا الاستنتاج بلا معنى.
يبدو أن عدم الاهتمام بملحن كبير مثل رياض السنباطي خارج أعماله لأم كلثوم، جعلها ملقاة هناك ومهملة في مخزن مليء بالغبار. إجمالًا، الأعمال التي نعرفها هي لونغا فرح فزا و"رقصة شنغهاي"، وهما عملان أذيعا بانتظام وعرفهما الكثير من المهتمين بالشأن الموسيقي العربي. ونعرف أيضًا عملين آخرين، واحد بعنوان "الأمل"، والثاني مجهول الاسم.
لعل السنباطي فقد حافز الاستمرار في تأليف الموسيقى الآلية، لتستولي عليه تبعية الموسيقى للغناء في الثقافة العربية. أتت معظم مؤلّفاته الآلية في الثلاثينيات، وربما بداية الأربعينيات، وكان خلالها يطمح إلى تقديم نفسه كمطرب، إضافة إلى كونه ملحنًا، على طريقة عبد الوهاب، خصوصًا أن لديه صوتًا جميلًا. على الأرجح أنه حقق بعض النجاح، فقدّم فيلمًا وحيدًا من بطولته بداية الخمسينيات، وغنى خلاله. إلا أنه توقف الغناء، ربما لعدم تحقيقه النجاح المأمول كمطرب، وعلى العكس كان ثبت نفسه كواحد من أهم الملحنين المصريين.
على مقام النهاوند
في المقطوعة مجهولة الاسم، التي وضعها السنباطي على مقام النهاوند، يظهر نزوعه الرومانتيكي، الذي سيتخفف منه لاحقًا لمصلحة التطريب. الأرجح أنه قدمها في حفلة للإذاعة المصرية مع تقاسيم للعود من مقام النهاوند عام 1940، واختتم فقرته بغناء "يا نجمة في سناك". تبدأ المقطوعة بجملة لحنية من شقين متماثلين مع تغير طفيف في نهاية الثاني، ثم يختتم بـ أدليب (عزف حرّ من الإيقاع) من المقام نفسه. يفضي هذا المقطع إلى أدليب آخر من مقام الكرد، يتم دمجه بالأثر كرد؛ ليتحول التعبير مشحونًا نهاية الأدليب. ولا ننسى ظهور البيتسيكاتو (النقر على الأوتار) بتوزيع موسيقي متقن، لتنتهي المقطوعة بجملة من النهاوند متماوجة وأكثر حزنًا مقارنة بالجملة الأولى المشرقة.
سيعيد السنباطي استخدام موسيقى تلك المقطوعة مجهولة الاسم في مقدمة أغنية "اذكريني" لأم كلثوم، وتحديدًا جملة النهاوند الأولى مع جزء قصير من الأدليب (الكرد). في الواقع، سجلت أم كلثوم الأغنية على أسطوانة عام 1939، بمدة سبع دقائق، بدأها بلازمة قصيرة من الكرد، مقام الأغنية. وهذا الأمر ألقى ظلاله على التأليف للموسيقى الآلية، ليتم تكريسه في مقدمات الأغاني الطويلة.
لكن سنلاحظ فرقًا في أسلوب توزيع اللحن نفسه حين نستمع له في المقطوعة مجهولة الاسم، وفي أغنية "اذكريني"؛ إذ سيتخذ شكلاً تطريبيًا في الأخيرة ليتسق مع أسلوب أم كلثوم، أو ربّما لرفضها ظهور ثيمات غربية في التوزيع الموسيقي. فمن الواضح أن السنباطي اعتمد على موزع موسيقي، يُشير إلى ذلك الظهور المتقن البيتسيكاتو واستخدام الفواصل الموسيقية في توزيع أوركسترالي. بينما اعتمد على التخت الشرقي في مسرح أم كلثوم. صورة تجسّد لنا الشكل الذي ذهب إليه أسلوب السنباطي؛ أي أن طريقة رؤيته للثيمات اللحنية اختلفت من ناحية المبدأ، مع نزوع أكثر نحو التطريب، وإن احتفظ بسماته الرومانتيكية في مظهر أراده، تمامًا، شرقي السمات.
تختمر شخصية السنباطي اللحنية في أغنية "اذكريني" بعد بداية شديدة التأثر بالقصبجي، وهي إحدى رومانتيكياته الرائعة؛ وتنضج في "سلوا كؤوس الطلا" مع ازدياد خبرته في تلحين القصيدة. ويظهر أسلوبه أكثر رسوخًا في "غلبت أصالح في روحي" عام 1946. ستعتمد أم كلثوم على كفاءة ملحنها الشاب لمواجهة ملحنيها المخضرمين. هكذا، تُقاطع ألحان القصبجي منذ 1947 ليختتم حياته كعواد في فرقتها. لاحقًا، تختصم وملحنها الآخر زكريا أحمد، ليتصالحا نهاية الخمسينيات، قبل وفاته.
أمل من حركة واحدة
تجسّد مقطوعة الأمل، وهي لحن من حركة واحدة للكمان والعود من مقام النهاوند، ملامح واضحة التأثر بالرومانتيكية الأوروبية. كان السنباطي أحد رموز تلك المرحلة الجامحة، والطموحة لابتكار جمالية لحنية للموسيقى العربية. مرحلة امتدت من نهضة بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. إلا أنها في النصف الأول من القرن العشرين خاضت معركةً لتأكيد الذات وسط تقابل ثقافات متعددة.
تلوح من المقطوعة سمات رومانتيكية ممتدة من شوبرت إلى سيبليوس. ثمة فرق بين السنباطي الشاب والناضج؛ ففي فترة شبابه ظهر نزوع للرومانتيكية مع ظهور ثيمات لحنية غربية، وهو نزوع سيظل معه طيلة حياته، لكن في ثيمات أكثر شرقية.
فرض السنباطي شخصيته اللحنية من دون ملاحقة أساليب التطور الغربي، مثل عبد الوهاب أو حتى القصبجي. في الوقت نفسه، لم يتجاهل أي مضمون غربي، إذا ما قارنّاه بزكريا أحمد، الأكثر تقليدية. رومانتيكية السنباطي أتت مشبعة بجذور عميقة من الموروث الغنائي العربي والترنيمات الروحانية لصوت المقرئين وألحان الإنشاد الديني. وتلك الجذور ترسخت مبكّرًا كونه ترعرع لدى أب ضليع في الإنشاد الديني، إضافة إلى تعلمه أصول قراءة القرآن بمؤثراتها العميقة التي ستنضج في ثوب كلثومي خالص الطرب، مع مسحة صوفية خالية من الدروشة. إضافة إلى أن رومانتيكيته ذات طابع كلاسيكي نتيجة اعتماده على قوة البناء اللحني.
رقصة شنغهاي
لا يبتعد السنباطي عن السمات الرومانتيكية حتى في مقطوعة موسيقية ذات طابع شرقي خالص. في مقطوعة "رقصة شنغهاي"، يختار مقام الراست، ذا الربع تون، الذي لا يستوعب أي مضامين للسلم الخماسي الصيني. ولا نعرف لماذا حملت المقطوعة هذا الاسم، الذي يُشير إلى تلك البلاد.
تبدأ موسيقى "رقصة شنغهاي" من صول قرار، بأدليب قصير يفضي إلى جملة لحنية متوسطة السرعة؛ تتكرّر فيها خلية لحنية، لتستطرد في حلقات أصغر تتآلف بتطور. وهي الجملة الرئيسية، تعترضها جملة قصيرة كجواب ذات شحن درامي، لتعود الجملة الرئيسية، ثم جواب آخر أكثر نشاطًا في الحركة، تتوالد فيه الخلايا اللحنية عبر هندسة التبادل المركّب.
لا تقوم المحاكاة الرومانتيكية على الواقع، بل على بناء نسق حالم. أطلق التشيكي دفورجاك على سيمفونيته التاسعة: "العالم الجديد"، ووعد بأن تكون سيمفونية أمريكية، حتى أن اسمها يخلق إيحاءً رمزيًا بأنها تتحدث عن أمريكا، لكنها لم تأبه بتوظيف أي طابع موسيقي أميركي. كذلك في مقطوعة السنباطي، هي تحمل عنوان "رقصة شنغهاي"، لكن هذا لا يحيلنا إلى أي موضوع صيني في المضامين الموسيقية. هنا، يُشار إلى أن سيد درويش، مثلًا، استخدم السلم الخماسي الإفريقي للتعبير عن طابع لحن سوداني.
صعودًا إلى جواب الجوابات
تبقى لونغا فرح فزا أكثر أعمال السنباطي أهمية وشهرة، ليس فقط لطبيعة بنائها الرشيق خفيف الحركة، بل أيضًا لطبيعة بنائها المحكم؛ إذ فرض فيها السنباطي نفسه كواحد من أمهر حياكي الموسيقى الشرقية. يعود هذا العمل، غالبًا، إلى الثلاثينيات، وربما وضعها عام 1938، أو قبلها بعام أو عامين.
يفتتح السنباطي اللونغا بحركة نشيطة تبدأ من الري جواب، ثم ترتفع وتيرتها مع جملة لحنية قصيرة تصعد إلى جواب الجوابات. ويبدو أن تجارب السنباطي الأولى في التأليف للموسيقى الآلية ساهمت في تطوير أدواته في حياكة الجمل الموسيقية تلك التي وضعها ببناء محكم للأغاني التي لحنها.
وكم كان سيكون رائعًا إثراء تلك التجارب للموسيقى الآلية، خصوصًا الأعمال الخاصة بقالب معين. وكما أشرنا، كرّس معظم الملحنين جهدهم بعد ذلك للموسيقى الملازمة للغناء. بمعنى أن التحاق الموسيقى العربية للغناء، حصر تلك الجهود، خصوصًا أن طبيعة الموسيقى الشرقية لا تتسم بالتعقيد المركّب من أصوات متعددة.
هكذا، لم يبق من 38 مقطوعة ألفها السنباطي للموسيقى الآلية سوى عملين ظلا معروفين لفترة طويلة هما لونغا فرح فزا، و"رقصة شنغهاي". العملان ذو طابع شرقي. هل الأسباب التي أدت إلى إخفاء تلك الأعمال هي أنها أتت برومانتيكية غربية الطابع كما هما في العملين الآخرين، أحدهما مجهول الاسم والآخر بعنوان "الأمل"؟ بمعنى، هل أن ظهورها يهدم صورة الملحن المعتز بشرقيته الخالصة؟ يبدو هذا الاستنتاج واهيًا، فنحن نعرف أن ألحان السنباطي أصبحت تميل أكثر للتطريب مع نضوجه اللحني. كما أن بعض تلك السمات لمؤلّفاته الآلية ستظهر في لحنيه الوحيدين لعبد الحليم حافظ مثلًا، مع توظيف توزيع موسيقي أكثر عصرية.
هل ضاعت تلك الاعمال نتيجة التلف وإهمال الجهات المختصة؟ إضافة إلى عدم اهتمام السنباطي نفسه لتلك الألحان؟ أم أنه أعاد توظيفها في ألحان أغانيه لاحقًا؟ أسئلة يمكننا العثور على الإجابة عنها في أرشيف الإذاعة المصرية، خصوصًا أنها غيّرت مقرّها في منتصف الخمسينيات، ما أدّى، غالبًا، إلى ضياع تسجيلات كثيرة. لعلّ السنباطي يستحق من الجهات المختصة والمهتمين بذل جهد للبحث عن أعماله المبكرة في الموسيقى الآلية.