رياح أدونيس في القاهرة

08 فبراير 2015

أدونيس .. يعرف جيدا اتجاهات الريح (Getty)

+ الخط -

تفتح العواصم دائماً شهية الشعراء لركوب الرياح، والساسة صيادون بالشبك في أوقات الخلاف، وأدونيس يعرف اتجاه الريح جيدا. لا هو المتنبي الباحث عن موطئ قدم عند (خصي مصر) كافور الأخشيدي، ولا الهارب من البارود الطائش في برّ الشام، فالرجل يعيش منعماً في باريس منذ ثلاثين سنة، منتظراً (جودو)، حتى وإن جاء على ظهر جمل من الجزيرة العربية، فالرجل عنده من لين السجايا ما يكفيه، وعنده من العمر ما يجعله يقضي أواخره في نعيم الكتابة، لولا أن ريح القاهرة، هذه الأيام، فيها من المتناقضات الكثير مما يجعل باريس ملتحمة بالقاهرة، حتى وإن صدرت في وجوده، أو يوم وجوده بالتحديد، إعدامات لـ 183، وهذا من حسن حظه، فهل شكه ضمير التحضر الباريسي بهذا الحكم، أو مرّ عليه كما تمر غمامة بتاجر من بلاد الشام، اعتاد في كل شتاء أن يمشي، بحريره وأقمشته، من الشام إلى اليمن؟

يقول أدونيس: (في جميع الحروب الثقافية المهمة، أرفض أن أكون مجنداً. أناضل وأخوضها مفردا)، فهل خفي على المناضل، بالأمس، سر وسريرة لقاء الإعلامية، لميس الحديدي، به، وهو الرجل الحصيف الذي عارك السياسة ودهاليزها ومقاصدها وتحزباتها ما بين الشام وباريس ستين سنة، والرجل يعرف أنه كان ضيفاً على قنوات رجال الأعمال؟ طافت به لميس، هنا وهناك، حتى قال: (لا وجود لثورات حقيقية، أي بالمعنى الحقيقي، في بلاد العرب، مقارنة طبعاً بثورات العوالم المتحضرة). كان المقصود بكلامه تسفيه الثورات العربية، أو الربيع العربي خصوصاً، لأنه يعتبر أن أية ثورة تخرج من المسجد لا تعبر، في النهاية، عن المعنى العميق للثورة. وهنا انبرت لميس مدافعة عن ثورتها المصرية، أي ثورة يوليو 1952، والجزائرية والمليون شهيد بها. هنا، تدارك أدونيس الخطأ، واعتذر، ووضع الثورة الجزائرية فقط، فقالت له: والمصرية؟ هنا عاد أدونيس لتحايلات التاجر الشامي، المحنك مرة أخرى، وقال: قد أكون مخطئا.

يقول: يجلس مع الغيم لكي يتقن الحوار مع الريح

ويقول: أن يقبل الكاتب بأن تدجنه الجماعة، أو الظروف، يعني أن يشارك في الحكم على نفسه بالخروج من عالم المعنى

وقال: سيغني المعري لطه حسين، سيغني لتمثاله، سيغني لمن قطعوا رأسه.

يعرف أدونيس جيداً أن بعد ثورات الربيع العربي، سُرق تمثال طه حسين من مكانه في المنيا من جوار البحر. وإلى الآن، لم تقبض سلطات مصر على أحد، ولم تتهم أحداً، ويعرف جيداً أن السلطة التي أعادت الدولة ثانية، ونظامها القديم، من أيدي الثّوار، تستطيع أيضا أن تعيد تمثال طه حسين من مخازن لصوصها الموجهين لمقاصد سياسية معروفة. لكن ذكاء أدونيس الشعري ربط ما بين تمثالي طه حسين والمعري في سورية، لكي يدين الثورة والثورات والثّوار، ويترك بسلام من قصف الإنسان بالطائرات، وهدم أكثر مدن سورية، وهذا هو تجلي الخطاب الشعري، حينما يرى حزن الوردة ولا يرى شراسة قاطفها أبدا.

في النهاية. مهما تخفّى أدونيس وراء أوراق وردةٍ، أو في تلافيف عمامة أبي العلاء، أو خلف نظارات طه حسين، فهو يدّعي نزاهة عقلية ليست فيه، فهو في يوم حداثي كأرقّ ما يكون الحداثي وراء نصوص سان جون بيرس، وفي اليوم التالي يمتدح عبدالله باشرحبيل وقوافيه. هو تاجر شامي، يجيد تسويق أقمشته في الوقت العصيب. أدونيس يعرف جيدا اتجاهات الريح، وآفات الجراد في قرطبة وأشبيلية، لأنه ابن دولة بني أميّة بامتياز. لكنه لا يعرف أن الشعوب، أيضاً، تعرف طريقها من السوق، أو من المسجد، ومن الجامعات أيضا، وأتمنى أن يكون هذا رأي الطلاب الذين درّس لهم الشعر من ثلاثين سنة، ولكنْ واضح أن باريس تُنسي كبار السن تواريخ النضال، وخصوصاً وهم على أعتاب التسعين.