19 أكتوبر 2019
روسيا والغرب بين الاستعراض والاستفزاز
يبدو أن العلاقة بين روسيا والغرب دخلت مرحلةً جديدة، يمكن تسميتها مرحلة المد الروسي، بعد عقود من الانحسار عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، فبعد اختفاء الأخير ورثته روسيا، لكنها كانت حينها منهكةً ومهدّدةً بحركات انفصالية داخلية، فضلاً عن أزمة اقتصادية خانقة. ولولا البعد الإستراتيجي لتركة الاتحاد السوفييتي التي ورثتها روسيا وحدها لما استقام أمرها. ذلك أن هم الولايات المتحدة الإستراتيجي، مباشرة بعد اختفاء الاتحاد السوفييتي، كان إفراغ باقي الجمهوريات السوفييتية السابقة من الأسلحة النووية، وتركيزها في يد روسيا دون سواها، للحيلولة دون الانتشار النووي. وقد نجحت الولايات المتحدة في هذا المسعى الذي يصبّ أيضاً في مصلحة روسيا الضعيفة منهكة القوى، ما سمح لها بأن تتصرّف وكأنها قوة كبرى، على الرغم من ضعفها.
موازاةً مع مشكلات روسيا الداخلية الاقتصادية والسياسية، توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً، على الرغم من تنديدها ومعارضتها ذلك، وسار على خطاها الاتحاد الأوروبي. واتضح من التوسع الأطلسي أن روسيا لم تخسر فقط مناطق نفوذها في أوروبا، بل أصبحت أيضاً مطوّقةً بحزام أطلسي، على مقربةٍ من حدودها الغربية. وطوال تسعينيات القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الحالي، شاهدت روسيا عاجزةً "الناتو" يتوسع شرقاً. وعلى الرغم من اتفاق باريس الموقع بين الطرفين في 1997، اعتبره بعضهم بمثابة الإعلان الحقيقي لنهاية الحرب البادرة، والذي تم بموجبه إنشاء مجلس الشراكة الأطلسي-الروسي، إلا أن الشك المتبادل بقي السمة الأساسية للعلاقة بين الطرفين، على الرغم من إقرارهما بأن عهد الحرب الباردة قد ولى. والسبب ليس فقط الإرث الثقيل لعقود الحرب الباردة، وإنما توسع الحلف شرقاً، وسياسة روسيا في جوارها الأقرب، وسعي بعض دول أوروبا الشرقية المنضمة حديثاً إلى "الناتو" إلى دفعه إلى اعتبار روسيا تهديداً إستراتيجياً للحلفاء.
على كلٍّ، بدا المشهد مختلاً تماماً: روسيا ضعيفة في مقابل غرب قوي يتوسع شرقاً عبر الذراعين العسكرية (الناتو) والاقتصادية (الاتحاد الأوروبي). إلا أنه بعد حوالي عقدين من الانحسار الروسي، بدأت الأمور تتغير شيئاً فشيئاً، وبدأت روسيا تسترجع تدريجياً المبادرة في علاقاتها مع القوى الغربية. بدأت مرحلة المد الروسي مع المواجهة العسكرية مع جورجيا في العام 2008، والتي ندّد بها الغرب بشكل واسع. تسببت هذه المواجهة، فيما تسبّبت، في تعليق التعاون بين "الناتو" وروسيا، إلا أن أكبر مواجهةٍ سياسيةٍ، وحتى عسكريةٍ، عبر أطرافٍ ثالثة بين روسيا والغرب، ستندلع بعد حوالي 22 سنة بعد اختفاء الاتحاد السوفييتي. يتعلق الأمر بالصراع حول أوكرانيا التي تحوّلت إلى مسرحٍ للصراع بين الطرفين. وتعد الأزمة الأوكرانية (حرب أهلية، ضم روسيا كريميا...) دلالة على بلوغ التوسع الغربي حدوده القصوى، والتحمل الروسي سقفه الأقصى، بل ودلالة على عودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية، بعد أن تحسنت ظروفها الاقتصادية بشكل ملحوظ. ومنذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، وروسيا تزاوج في سياستها حيال الغرب بين الاستعراض والاستفزاز، استعراض عضلاتها العسكرية دليلاً على عودتها القوية عالمياً.
بعد أن حسمت جزئياً الأزمة الأوكرانية لصالحها، من دون أن يعني ذلك تسويةً للأخيرة.
وبالتالي، تأمين جوارها الشرقي الأقرب، تبنّت روسيا استراتيجية مماثلة دولياً بولوجها الأزمة السورية عسكرياً، وبشكل مباشر، بعد أن كانت تكتفي بدعم النظام السوري سياسياً وتسليحه. اغتنمت التدخل العسكري الجوي الغربي في سورية والعراق لمحاربة "داعش" لتدخل هي الأخرى على الخط. بالطبع، يتغنى الجميع بالحرب على الإرهاب. لكن، لكل طرفٍ أهدافه التي لا علاقة لها بالإرهاب. بتدخلها العسكري المباشر إلى جانب النظام السوري، قلبت روسيا الحسابات السياسية، وحتى موازين القوى في المسرح العسكري السوري، وأصبحت الشريك الأساسي الذي لا يمكن الاستغناء عنه، للبحث في أي تسوية سلمية للأزمة. وفضلاً عن مبرراته المباشرة، لا سيما العلاقة "التحالفية" التقليدية بين روسيا وسورية، يندرج التدخل الروسي ضمن إستراتيجيةٍ أشمل، وهي تصفية حساباتٍ مع القوى الغربية التي طمعت، حسب المنظور الروسي، في بسط نفوذها على الإقليم الأقرب جغرافياً وسكانيا (أوكرانيا) من روسيا. ومن ثم، فهذه الأخيرة تحارب في سورية، وعيونها أيضاً على أوكرانيا، فهي تريد أن تدعم تقدّمها في لعبة الشطرنج هذه مع القوى الغربية.
يدل هذا الاستعراض للقوة الروسية الذي انتقل من الجوار الأقرب إلى الشرق الأوسط، والذي لم يشهد له مثيلاً، حتى في عز الحرب الباردة، إلى عودتها قوةً كبرى على الساحة الدولية، وانخراطها في رهاناتٍ وصراعات نفوذ عالمية، كانت سنين حكراً على القوى الغربية دون سواها. وفي بعض الأحيان، يتحوّل هذا الاستعراض للقوة إلى نوعٍ من الاستفزاز، كما يدل على ذلك تحليق مقاتلات روسية على مقربة من السواحل الفرنسية (المقابلة للسواحل البريطانية والمتاخمة للإسبانية) ولمرتين في أقل من عامين، قبل أن ترافقها مقاتلاتٌ فرنسية، وتجبرها على الابتعاد من المجال الجوي الفرنسي، والعودة من حيث أتت. ويبدو أن هذه المقاتلات قادرةٌ على حمل صواريخ نووية، لكنها لم تكن مزودةً بمثل هذه الصواريخ لدى تحليقها بالقرب من السواحل الفرنسية. فضلاً عن هذا، حلقت، في أبريل/ نيسان الماضي، مقاتلاتٌ روسية على مسافةٍ اعتبرتها الولايات المتحدة قريبة جداً من مدمرةٍ أميركية في المياه الدولية في بحر البلطيق.
تثير كل هذه الحوادث المتتالية تساؤلاتٍ عن أهداف هذه الاستفزازات الروسية. قد تكون محاولةً لاختبار رد فعل الدول الغربية، أو ببساطة استفزازها لدفعها إلى ارتكاب خطأ تستغله روسيا في دعايتها في وجه الدعاية الغربية. بصفةٍ عامة، تشير كل هذه المعطيات إلى عودة قوية لروسيا على الساحة العالمية. ما يعني أن الولايات المتحدة في مواجهة قوتين مختلفتين من حيث الطبيعة: الروسية العسكرية التي استعادت عافيتها والصينية الصاعدة. إنها دلالات تحوّلات القوة العالمية، وتقلبات المشهد الدولي.
موازاةً مع مشكلات روسيا الداخلية الاقتصادية والسياسية، توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً، على الرغم من تنديدها ومعارضتها ذلك، وسار على خطاها الاتحاد الأوروبي. واتضح من التوسع الأطلسي أن روسيا لم تخسر فقط مناطق نفوذها في أوروبا، بل أصبحت أيضاً مطوّقةً بحزام أطلسي، على مقربةٍ من حدودها الغربية. وطوال تسعينيات القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الحالي، شاهدت روسيا عاجزةً "الناتو" يتوسع شرقاً. وعلى الرغم من اتفاق باريس الموقع بين الطرفين في 1997، اعتبره بعضهم بمثابة الإعلان الحقيقي لنهاية الحرب البادرة، والذي تم بموجبه إنشاء مجلس الشراكة الأطلسي-الروسي، إلا أن الشك المتبادل بقي السمة الأساسية للعلاقة بين الطرفين، على الرغم من إقرارهما بأن عهد الحرب الباردة قد ولى. والسبب ليس فقط الإرث الثقيل لعقود الحرب الباردة، وإنما توسع الحلف شرقاً، وسياسة روسيا في جوارها الأقرب، وسعي بعض دول أوروبا الشرقية المنضمة حديثاً إلى "الناتو" إلى دفعه إلى اعتبار روسيا تهديداً إستراتيجياً للحلفاء.
على كلٍّ، بدا المشهد مختلاً تماماً: روسيا ضعيفة في مقابل غرب قوي يتوسع شرقاً عبر الذراعين العسكرية (الناتو) والاقتصادية (الاتحاد الأوروبي). إلا أنه بعد حوالي عقدين من الانحسار الروسي، بدأت الأمور تتغير شيئاً فشيئاً، وبدأت روسيا تسترجع تدريجياً المبادرة في علاقاتها مع القوى الغربية. بدأت مرحلة المد الروسي مع المواجهة العسكرية مع جورجيا في العام 2008، والتي ندّد بها الغرب بشكل واسع. تسببت هذه المواجهة، فيما تسبّبت، في تعليق التعاون بين "الناتو" وروسيا، إلا أن أكبر مواجهةٍ سياسيةٍ، وحتى عسكريةٍ، عبر أطرافٍ ثالثة بين روسيا والغرب، ستندلع بعد حوالي 22 سنة بعد اختفاء الاتحاد السوفييتي. يتعلق الأمر بالصراع حول أوكرانيا التي تحوّلت إلى مسرحٍ للصراع بين الطرفين. وتعد الأزمة الأوكرانية (حرب أهلية، ضم روسيا كريميا...) دلالة على بلوغ التوسع الغربي حدوده القصوى، والتحمل الروسي سقفه الأقصى، بل ودلالة على عودة روسيا بقوة إلى الساحة الدولية، بعد أن تحسنت ظروفها الاقتصادية بشكل ملحوظ. ومنذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، وروسيا تزاوج في سياستها حيال الغرب بين الاستعراض والاستفزاز، استعراض عضلاتها العسكرية دليلاً على عودتها القوية عالمياً.
بعد أن حسمت جزئياً الأزمة الأوكرانية لصالحها، من دون أن يعني ذلك تسويةً للأخيرة.
يدل هذا الاستعراض للقوة الروسية الذي انتقل من الجوار الأقرب إلى الشرق الأوسط، والذي لم يشهد له مثيلاً، حتى في عز الحرب الباردة، إلى عودتها قوةً كبرى على الساحة الدولية، وانخراطها في رهاناتٍ وصراعات نفوذ عالمية، كانت سنين حكراً على القوى الغربية دون سواها. وفي بعض الأحيان، يتحوّل هذا الاستعراض للقوة إلى نوعٍ من الاستفزاز، كما يدل على ذلك تحليق مقاتلات روسية على مقربة من السواحل الفرنسية (المقابلة للسواحل البريطانية والمتاخمة للإسبانية) ولمرتين في أقل من عامين، قبل أن ترافقها مقاتلاتٌ فرنسية، وتجبرها على الابتعاد من المجال الجوي الفرنسي، والعودة من حيث أتت. ويبدو أن هذه المقاتلات قادرةٌ على حمل صواريخ نووية، لكنها لم تكن مزودةً بمثل هذه الصواريخ لدى تحليقها بالقرب من السواحل الفرنسية. فضلاً عن هذا، حلقت، في أبريل/ نيسان الماضي، مقاتلاتٌ روسية على مسافةٍ اعتبرتها الولايات المتحدة قريبة جداً من مدمرةٍ أميركية في المياه الدولية في بحر البلطيق.
تثير كل هذه الحوادث المتتالية تساؤلاتٍ عن أهداف هذه الاستفزازات الروسية. قد تكون محاولةً لاختبار رد فعل الدول الغربية، أو ببساطة استفزازها لدفعها إلى ارتكاب خطأ تستغله روسيا في دعايتها في وجه الدعاية الغربية. بصفةٍ عامة، تشير كل هذه المعطيات إلى عودة قوية لروسيا على الساحة العالمية. ما يعني أن الولايات المتحدة في مواجهة قوتين مختلفتين من حيث الطبيعة: الروسية العسكرية التي استعادت عافيتها والصينية الصاعدة. إنها دلالات تحوّلات القوة العالمية، وتقلبات المشهد الدولي.