روسيا والأوبئة: كيف تعامل الاتحاد السوفييتي مع الكوارث؟

05 ابريل 2020
يظنّ بعض المتابعين أنّ السلطات الروسية تخفي أعداد المصابين(Getty)
+ الخط -
في الوقت الذي يحتدم فيه الجدل حول قدرة القطاع الصحي الروسي على مواجهة مخاطر فيروس كورونا المستجد، تنتشر عبر الشبكات الاجتماعية في روسيا، شائعات عن تكتم السلطات على الأرقام الحقيقية لتفشي فيروس كورونا في البلاد، وتعميمها بيانات مضللة عن عدد الإصابات والوفيات، أقل بعدة مرات من الحقيقة، وتسجيلها حالات الإصابة والوفاة بالفيروس الجديد على أنها حالات إنفلونزا عادية والتهاب رئوي. ووفقاً للبيانات الرسمية المنشورة على موقع "ستوب كورونا فيروس" الإلكتروني، والذي أنشأته الحكومة الروسية، فقد بلغ عدد المصابين بفيروس كورونا في روسيا حتى 20 مارس/ آذار الجاري، 253 حالة، وتم تسجيل حالة وفاة لسيدة مسنة (79 عاماً) مصابة، قيل إنها قضت جراء جلطة قلبيَّة، لأنها تعاني أصلاً من أمراض في القلب والشرايين. وفي حين يقلل فريق من الأطباء والخبراء من واقعية هذه الشكوك، ويؤكِّدون أنَّ روسيا بلدٌ مرَّ بأزمات صحية عديدة في تاريخه، ولديه خبرة في التعامل مع أصعب الظروف، لا يستبعد جزء من المتوجّسين أن تكون السلطات متورّطة بالفعل بإخفاء البيانات الحقيقية، مشيرين إلى تاريخ البلاد الحافل بالتكتُّم، وخبرتها الكبيرة في طمس الحقائق وتزويرها عند التعامل مع أوبئة وكوارث شهدها الاتحاد السوفييتي، ولم يسمع عنها العالم إلا بعد سنوات.

وحذر المؤرخ والمحلل السياسي الروسي، فاليري سولوفي، في صفحته على فيسبوك من أن "الوضع الحقيقي لانتشار فيروس كورونا في روسيا دراماتيكي بالفعل، وسيصبح مأساويًا قريبًا". واتهم السلطات بأنها تتكتم على عدد حالات الإصابة، وبأنَّ أسباب الوفاة (وحالاتها كثيرة بالفعل) يتم تزويرها، لافتاً إلى أنَّ "الأمر لا يتعلق فقط باعتياد سلطات البلاد على الأكاذيب. بل لأن القطاع الصحي المنهار عاجز عن مواجهة الكارثة الوشيكة". ورجح أخصائي الأمراض المعدية فالنتين، كوفاليف، في تصريحات لموقع "ميدوزا"، بأنَّ "عدوى فيروس كورونا قد وصلت إلينا (في روسيا) منذ فترة طويلة من الصين، والكثيرون أصيبوا بها بالفعل. لكننا لا نعرف عن هذه الحالات، لأنه في معظم الحالات أعراض المرض شبيهة بالإنفلونزا أو نزلة البرد العادية ويتعافى الشخص منها تلقائياً. في بلدنا، لا أحد يفحص أولئك الذين لديهم نزلة برد أو إنفلونزا".

الجمرة الخبيثة
ويذهب فريق واسع من الواثقين بقدرة السلطات على تجاوز المحنة إلى تعاملها السريع مع الجمرة الخبيثة في 2016. فبعد وفاة صبي في روسيا في مقاطعة يامالو- نينيتسك غربي سيبيريا، أجرت السلطات فحوصات لأكثر من 90 شخصاً في مناطق نائية من المقاطعة، ليتمَّ تأكيد إصابة ثمانية أشخاص بالمرض الذي يُعتقَد أنه ينتقل من خلال بعض فصائل الأيائل. وقتلت على إثرها السلطات 2300 أيّل لتنتهي العدوى. وفي المقابل، استحضر كثير من الروس عام 1979، حين وقع أكبر حادث استنشاق بشري لجراثيم الجمرة الخبيثة في المركز البيولوجي العسكري في مقاطعة سفيردلوفيسك شرقي روسيا، بعد خطأ بشري في مختبر سري أدى إلى انتشار الجمرة الخبيثة، وتسبب بإصابة 879 شخصاً من السكان المحليين، توفي من بين المصابين 68 شخصاً، في حين يؤكد صحافيون وخبراء أن الأرقام الحقيقية تزيد فعلاً عن مائة قتيل. ورغم تكتم السلطات على أسباب انتشار المرض، تصرفت السلطات السوفيتية آنذاك بسرعة كبيرة، وقامت بتطعيم 50 ألف شخص، وتم غسل مباني مدينة سفيردلوفيسك بمحلول الكلور، وقامت السلطات بإعادة رصف الطرق، ومنعت الأطباء والممرضين من الكشف عن أي تفاصيل عن الوباء، وصادرت أجهزة الأمن السوفييتية كل السجلات المتعلقة بالكارثة. وذكر المسؤولون حينها، أن السبب وراء الكارثة هو لحم ملوث، إلا أنَّ مسؤولين اعترفوا في عام 1992 بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بأن الأبحاث العسكرية البيولوجية كانت السبب في انتشار المرض.

الطاعون
في الاتحاد السوفييتي، اعتبر الطاعون من بقايا الماضي الرجعي، وتعمدت سلطات البلاد التأكيد على خلو الاتحاد السوفييتي منه، والقضاء على المرض بشكل كامل. رغم التصريحات الرسمية، انتشر وباء الطاعون عدّة مرّات كان آخرها 1981، وغالبًا كانت الجائحة قادمةً من مناطق آسيا الوسطى وكازاخستان والقوقاز. وكشفت الإحصاءات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أنه من عام 1920 إلى عام 1989، أصيب 3639 شخصًا بالطاعون، ولقي 2060 شخصاً حتفهم بسببه. قبل الحرب العالمية الثانية، أودى الطاعون بمئات الأرواح، ثم من منتصف الأربعينيات، انخفض عدد الضحايا إلى عدة عشرات. ومن أجل التكتم، تم وضع أنشطة الأطباء وموظفي خدمة مكافحة الأوبئة تحت بند السرية المطلقة، ولم يكن لهم الحق في إخبار أي شخص، بمن فيهم الأهل، عن طبيعة مهامهم التي كانوا غالباً يُعلَمون بها بعد صعودهم الطائرة أو وسيلة النقل التي ستقلِّهم إلى مكان الوباء.

الإيدز
ومن الأمثلة على حوادث الإنكار التي أدّت إلى تفاقم المشكلة، يقود ناشطون طريقة تعامل السلطات السوفييتية مع مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز). فحتى منتصف الثمانينيات، كانت السلطات السوفييتية تؤكد أن القلعة الشيوعية عصية على المرض بسبب خلوها من "فراشات الليل" ومدمني المخدرات والمثليين جنسياً. في عام 1986، أفاد وزير الصحة في جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفييتية في برنامج "فريميا" الإخباري بأنه: "في أميركا، يتفشى الإيدز منذ عام 1981، وهو مرض غربي. ليس لدينا أساس لانتشار هذه العدوى، حيث لا يوجد إدمان على المخدرات ولا توجَد عاهرات في روسيا". لم يطل انتظار انتشار الإيدز في الاتحاد السوفييتي طويلاً. بحلول عام 1988، تم اكتشاف أكثر من 30 مصابًا، وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي، لم يتم رسميا تسجيل أكثر من ألف حالة إصابة بالإيدز. ولكن الأرقام كانت أكبر بكثير، ومعلوم أنه وفق بيانات عام 2019، بلغ عدد المصابين بالإيدز في روسيا 1.06 مليون شخص.

الكوليرا
وشهد الاتحاد السوفييتي أكثر من مرة انتشار وباء الكوليرا. وفي عام 1970 انتشر الوباء في منطقة البحر الأسود والقوقاز وحوض الفولغا وشبه جزيرة القرم وجنوب أوكرانيا. وتسبب المرض بوفاة العشرات، ما دفع السلطات السوفييتية إلى التحرك بعد وصوله إلى مدن كبرى مثل أوديسا (أوكرانيا حالياً) وأسترخان. ولم يُعرَف العدد الدقيق للوفيات حتى الآن في الوباء الذي انتشر في مساحات واسعة يسكنها عشرات الملايين في مناطق تعاني من ضعف البنية التحتية لتصريف المياه العادمة، وكذلك المرافق الطبيَّة.

تشيرنوبل 
وبعيدا عن الأوبئة، يستشهد عدم الواثقين بتعامل السلطات الروسيَّة مع كورونا، بالتذكير بأسوأ كارثة نووية عرفها العالم في تشيرنوبل التي حدثت في إبريل/ نيسان 1986، وكان سببها انفجار مفاعل نووي في مدينة تشيرنوبل، وأوقعت عشرات القتلى ومئات آلاف المصابين. ولم تكشف السلطات السوفييتية عن حجمها وتداعياتها إلا بعد نحو ثلاثة أسابيع. ولم يسمع العالم بالكارثة إلا بعد يومين، إذ حاولت سلطات الاتحاد السوفييتي السابق التكتم على ما جرى. ولم تبدأ السلطات إجلاء سكان بلدة بريبيات، التي تقع على مسافة ثلاثة كيلومترات من المحطة، وكان يسكنها في ذلك الوقت 48 ألفاً بينهم العاملون في المحطة، إلا بعد 36 ساعة تقريباً من الانفجار. وكانت السويد، التي لاحظت قدراً كبيراً من الإشعاع النووي، هي التي كشفت للعالم الحادث المروع. وحينها، اضطرت السلطات السوفييتية إلى الإعلان بشكل مقتضب عن "حادث" في محطة تشيرنوبل. وورد الإعلان في برقية من خمسة أسطر نشرتها وكالة أنباء "إيتار تاس". وظل الصمت سائداً في أعلى هرم القيادة السوفييتية حتى 14 مايو/أيار 1986، حين تحدث الرئيس ميخائيل غورباتشوف عن الكارثة.
المساهمون