تستطيع روسيا أن تراقب الآن ما يجري في دونيتسك وخاركوف ولوهانسك، من دون أن تتدخّل عسكرياً كما فعلت في شبه جزيرة القرم. يُمكنها الانصراف الى متابعة وسائل الاعلام وتقارير الاستخبارات. ما حصل ويحصل وسيحصل، سيصبّ في مصلحتها. فما أن ومض الضوء الأخضر في القرم، حتى صدحت صيحات "الانفصاليين" الأوكرانيين من أوديسا الى لوهانسك. في دونيتسك، كانت "جمهورية شعبية" ما تُولَد، ولو على الورق، وفي الكرملين ضحكات حمراء، تُذكّر بضحكات الحرب الباردة.
ماذا تريد روسيا بعد القرم؟ كل شيء ولا شيء. تريد أن يبقى القرار الأوكراني ممسوكاً من موسكو، ولا تريد إرسال جيشها الى المقاطعات الأوكرانية الثائرة، في دونيتسك وخاركوف ولوهانسك. تريد موسكو الإمساك بأوكرانيا من دون استيلاد "قرم" أخرى، فاقتراح "الفيدرالية" الذي طرحه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يَصلُح بالنسبة الى روسيا، لمعالجة الأزمة الداخلية في أوكرانيا. غير ذلك، سيُبقي الأفق مسدوداً.
كان الأمر متوقعاً، بعد القرم، أن تنتفض مقاطعات أخرى ضد الحكومة المؤقتة في كييف. بالنسبة الى دونيتسك (26517 كيلومتراً مربّعاً)، وخاركوف (31415 كيلومتراً مربّعاً)، ولوهانسك (26684 كيلومتراً مربّعاً)، فإن "التعب الاقتصادي" الذي تقدّمه كل منها الى كامل أوكرانيا، لم يجد مكاناً له في التركيبة السياسية الحالية. تشابكت "القومية الروسية" للمقاطعات الثلاث وارتباطها بـ"الجار الأكبر"، مع الغبن الذي شعرت به، لترفع الأعلام الروسية فوق المباني الرسمية الأوكرانية، في وقتٍ حدّدت فيه "جمهورية دونيتسك الشعبية"، يوم 11 مايو/ أيار المقبل، موعداً لاستفتاء شعبي، للانفصال عن أوكرانيا.
في دونيتسك، تتمركز صناعة الحديد والصلب والفحم وسكك الحديد، وتُعتبر لوهانسك امتداداً جغرافياً واقتصادياً تكاملياً لها. أما خاركوف، فتحوي أكبر حقل غاز في أوكرانيا، فضلاً عن تخصيصها حوالى 19 ألف كيلومتر، أي حوالى 61 في المئة من أراضيها للزراعة. المنظومة الاقتصادية المتكاملة للمقاطعات المنتفضة، والمسنودة على تواصل "طبيعي" مع روسيا، فضلاً عن انضمام القرم، بما تعنيه من ثقل اقتصادي على البحر الأسود، الى روسيا، تعني بشكل عملي، نهاية الاقتصاد الأوكراني، وتُصبح معها "فكرة" تصدير الغاز من غرب وشمال أوروبا الى أوكرانيا، مجرّد عبء هائل على الغربيين. وبدلاً من دعم الغرب لأوكرانيا بما يُتيح مواجهة روسيا، أكان عبر إقرار المزيد من العقوبات على موسكو أو حتى تقديم دعم عسكري لكييف، كإرسال قوات أو نصب صواريخ موجّهة شرقاً، فقد يُصبح الحال كمَن يُرسل معونة اقتصادية وغذائية الى بلاد منكوبة.
هنا يأتي دور موسكو؛ في البدء ترغب في فرض السعر الذي تريده على أوكرانيا في موضوع الغاز، ولا يُمكن لكييف استخدام الغاز الخاص بها، كبديل من الغاز الروسي، كون الغاز الأوكراني منخفض "السعرات"، وكل 1500 متر مكعب منه، تعادل ألف متر مكعب من الغاز الروسي. يُستخدم الغاز الأوكراني للأغراض الخفيفة، كالتدفئة المنزلية، بينما يموّن الغاز الروسي الصناعة الأوكرانية والأوروبية. ومن شأن اضطرار أوروبا، وتحديداً ألمانيا، الى مواكبة السعر الروسي المستجدّ (485.5 دولاراً لكل متر مكعب من الغاز الى أوكرانيا، وزيادة رسوم النقل الى أوروبا عبر أوكرانيا، بنسبة 10 في المئة)، من دون ردّ عمليّ، من شأنه التأثير على ملفات اقتصادية عدّة.
هكذا قد تُصبح أوكرانيا في مهبّ الريح، وهي التي وافق صندوق النقد الدولي على تقديم ائتمان طارئ لها بقيمة تتراوح بين 14 و18 مليار دولار، مقابل إجراء إصلاحات اقتصادية قاسية، في إطار حزمة دولية بقيمة 27 مليار دولار.
أما اليونان، فقد تعود الى مواسم التظاهرات، في غياب داعم ألماني مشغول بحماية صناعته من الأكلاف العالية المترتّبة عن نقل الغاز الروسي. بينما ستدرك اسبانيا والبرتغال وايرلندا وغيرها، أنها وحدها في مواجهة الأزمات المالية، ما يسمح بتكرار النموذج السياسي الفرنسي، عبر اختراق اليمين واليمين المتطرف لمراكز القرار.
هذا ما تريده روسيا، بعد كل ما حدث، أن تدفع الأمور أكثر صوب حافة الهاوية. بالنسبة إليها، قدّمت "الحلّ الفيدرالي، لإنقاذ أوكرانيا من التفتيت"، لكن كييف رفضته. رفْضُ "الانقلابيين"، كما تُسمّيهم موسكو، وإصرارُ "الانفصاليين" على الخروج عن طاعة كييف، كما تُسميّهم السلطات الأوكرانية المؤقتة، بات يهدّد البلاد بحرب أهلية على الضفة الشرقية لنهر دنيبر. حرب قد تجرّ العالم الى القبول بالشروط الروسية، وإلا فإن أنابيب الغاز ستتوقف عن الضخّ في اتجاه أوروبا.
ووسط اندفاع الحكومة المؤقتة في كييف الى المواجهة، قبل 25 مايو/ أيار، الموعد المفترض للانتخابات الرئاسية الأوكرانية، وتنامي الاضطرابات في شرق أوكرانيا، تنتظر موسكو اللحظة التي ستعود فيها أوكرانيا إليها، وبشروط روسية، والانتهاء من أحلام الاتكال على الغرب، الذي لم يتدخّل في جورجيا، ولن يتدخّل في أوكرانيا، كما تدلّ مجريات الأمور حتى الآن. لا تريد روسيا قضم أراضٍ جديدة، فالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قالها مرة: "مَن لا يحنّ الى الاتحاد السوفياتي لا قلب له، ومَن يتمنّى عودته لا عقل له".
تستطيع روسيا الاطمئنان، فأوكرانيا ما بعد الأزمة لن تكون كما قبلها. بفدرالية أو تقسيم أو محافظة البلاد على وحدتها، بجميع الأحوال، ستكون القبضة الروسية أقوى على جارتها. أسلوب "المافيا" الإيطالية، طاغٍ في الكرملين: لا رحمة في أي عقاب، وكل "مخطئ" سيدفع الثمن غالياً جداً، ولو تضرّع الى قاتله، كي يتعلّم غيره. درس جورجيا يبقى "تمهيدياً" أمام ما تفعله روسيا بأوكرانيا، حتى الآن.