روبيرت بلوم المجهول

25 اغسطس 2015
لوحة للفنان المغربي محمد السالمي
+ الخط -
لا يصح لفظ "المجهول" صفةً لروبيرت بلوم، بل لا يليق بالمكانة المتميزة التي احتلها الشاعر والمناضل الألماني في الذاكرتين الثقافية والسياسية للألمان عموماً، ولجيرانهم النمساويين خاصّة. لكنني أُرغمت، بعد بحث مكثف لم يقد لأي شيء يُذكر عنه في اللغة العربية، على استخدام صفة المجهول الباردة للتعريف باسم يمكن عدّه مجهولًا بالكامل في اللغة التي أكتب بها.
لم يكن بلوم المولود لعائلة فقيرة (1807) في كولونيا شاعراً بالمعنى الذي عرفناه في التجربة الصارخة لثلة الشعراء الألمان، أبناء تلك المرحلة وما قبلها أو بعدها بقليل، الذين تلقفت ثقافات العالم أعمالهم وخلّدت، مرّة وإلى الأبد أسماءهم: يوهان فون غوته، فريدريش شيلر، هاينرش هاينه وغيرهم. فقد كان لبلوم، بحسب رسائله القليلة: "مواجع أخرى وهموم عليّ إنزالها عن كتفي". كما كانت له طرائقه الخاصّة والواضحة، صدامية الشكل والمعنى، في البحث عن سبل الخلاص من تلك المواجع والهموم. وهو الأمر الذي ميّزه عمن ذكرتُ من شعراء ومنح تجربته بريقها الخاص والريادي.
مبكراًمزج بلوم بين همومه الحياتية وتصوراته عن القصيدة: "أريد للقصيدة أن تعكس متاعب البحث عن سبل كريمة للعيش"، أو "لا قيمة للشعر إن لم يحمل نداء الحرية وغاياتها". وكانت الثيمة الأخيرة؛ الحرية، قد أخذت حيزاً متميزاً وعالي الوقع في مجمل إرثه الشعري الذي غرف بقوّة من مفردات القاموس السياسي الواضحة والصريحة التي ستشكّل جملته الشعرية الصارخة والتحريضية أيضًا في قصيدة رثى فيها المناضل الفنزويلي المعروف سيمون بوليفار (1783- 1830): "الآن هو وقت الخروج إلى الشارع، وقت البحث عن الحقوق".
وإلى الشارع خرج بلوم فعلًا، وبسرعة لافتة تحوّل الشاعر إلى خطيب ناري في التظاهرات والتجمعات الوطنية المطالبة بالجمهورية ونشر الحريات وحقوق المواطنة، أي كلّ ما جاءت به واقترحته الثورة الفرنسية بعبارة أدق، حيث سيتحول بلوم، مع كثرة الأحداث السياسية وتسارع وتيرتها إلى قائد شعبي وعضو في أوّل برلمان ألماني منتخب.

اقرأ أيضاً: أزرق جورج تراكل

بعيداً ذهب بلوم، الشاعر والسياسي، في التجليات الإنسانية التي جاءت بها ثورة 1848، تلك التي انطلقت شرارتها في فرنسا، وسرعان ما امتدت إلى عديد المطارح في القارة العجوز. ومن وحيها كتب الكثير من القصائد والخطب والرسائل التي اجتمعت على تأييد فكرتها الأم: الحرية. فكرته هو، كما كان يردد. وهاجسه الوجودي الذي سيقوده إلى درجات التماهي الكلي بها ومعها. وصولًا إلى لحظة الذهاب الطوعي، تماهياً مع الفكرة الآسرة تلك إلى الموت.
في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأوّل من العام 1848 مدفوعاً بقناعاته الشعرية والثورية معًا، عمل بلوم على تشكيل وفد برلماني صغير مكلف بمهمة نبيلة واحدة: "تقديم العون والإعلان عن التضامن مع الثوار في القارة". وكانت فيينا، كما هو متوقع ومنتظر يومها، محطته الأولى.
كانت فيينا، العاصمة القيصرية الأهم آنذاك، قد تحولت مع مطلع أكتوبر من تلك السنة إلى ساحة لمواجهات دموية بين الثوار والقوات الحكومية التي تلقت أوامرها الصارمة بإطلاق النار على الثوار وإعدام من يقع القبض عليه منهم: "أعواد المشانق منتشرة بكثرة في هذه المدينة الجميلة"، كتب بلوم في رسالته الأخيرة من السجن.
إلى فيينا الغارقة في الدماء، وصل بلوم ليعلن ووفده الصغير عن تضامنه مع ثوارها. وإلى حمل السلاح، بعد عديد الخطب النارية في التجمعات الشعبية، ذهب الشاعر محارباً على جبهات عديدة، في أحياء متفرقة من العاصمة، إلى حين تم القبض عليه في الحي العشرين.
لم تمهل الحكومة القيصرية بلوم الكثير من الوقت للدفاع عن نفسه وأفكاره، ولم تسمح لبرلمان فرانكفورت الذي يمثّله بإرسال بعثة دبلوماسية تسعى لإنقاذه. فقد كان لتلك الحكومة رأيها الصارم، رمزي الإشارة أيضاً، المتمثل بإعدام روبيرت بلوم شنقاً، وسجن رفاقه في الوفد، رمياً بالرصاص لا شنقاً.
تم إعدامه في الحي الذي اعتقل فيه، ليكون مذّاك وإلى اليوم، الشاعر الألماني الوحيد الذي صدر بحقّه حكم بالإعدام ونفذ.
بشجاعة فارس وشاعر حقيقي رحل بلوم. هو الذي رفض غطاءً لوجهه أثناء إطلاق الرصاص عليه. كما رفض، قبل إعدامه بقليل، استقبال الراهب المكلف بالصلاة عليه. ومن وحي تلك الشجاعة ذاتها كتب في ختام رسالته الوداعية الأخيرة إلى زوجته، هذه الكلمات: "ما كان للحداثة أن تكون، ولا لفكرة جميلة أن تولد، وما كان للثورة أن تقوم، وما كان ممكنًا أن تُخلق الأعمال الحيوية والعظيمة، لو كان الجميع يقولون: لا يمكن للتغيير أن يكون".
المساهمون