روبسبيير الثورة المصرية
ما هو النظام العربي الذي يعبّر، اليوم، بقوة عن "الثورة المضادة" التي جاءت لتمحو كل أثر لـ"الربيع العربي"؟ ربما يذهب تفكير بعضهم، تلقائياً، إلى نظام بشار الأسد الذي مازال يواجه شعبه بالبراميل المتفجرة. لكن، في سورية، لم تنجح الثورة، لأن النظام قمعها والمحيط العربي والإقليمي سلحها، فتحولت إلى حرب أهلية. قد يقول بعض آخر، إنها بعض أنظمة الخليج التي لم تكن مرتاحة إلى ما ستحمله رياح الربيع العربي، لكن دول هذه الأنظمة، باستثناء البحرين، لم تعرف ثورات شعبية، وبالتالي، لا مجال للحديث عن وجود ثورات مضادة. أما اليمن وليبيا فحالة الفوضى قضت على النظام، سواء كان مع الثورة أو ضدها. وفي دول المغرب العربي، خصوصاً تونس والمغرب، فقد اختارا مسارات مختلفة، مازالت فيهما الإرادتان تتصارعان، إرادة التغيير والقوى المضادة للتغيير.
بقي نظام واحد، إنه النظام المصري. إنه هو بعينه، النظام الذي يجسد اليوم "الثورة المضادة"، والوقائع هنا تثبت ذلك، فكل يوم تؤكد قرارات هذا النظام، بما لا يدع أي مجال للشك بأنه المعبّر بامتياز ووضوح عن "الثورة المضادة". أي عن مقاومة التغيير الذي حملته ثورة 25 يناير. فقد نجح النظام المصري الحالي في أن يجمع في صف واحد كل مقاومي التغيير من انقلابيين (قادة الثورة المضادة)، وأصحاب الامتيازات، والنخب السياسية والإعلامية والثقافية والفنية، وأعداء الثورة الذين مُسَّت مصالحهم داخل أجهزة الدولة، من أمن وشرطة وقضاء، وكل الذين لم تحقق لهم الثورة مطامحهم، بمن فيهم بسطاء الشعب المحبطون. كل هؤلاء جمعهم النظام المصري الحالي في جبهة واحدة، هي جبهة "الثورة المضادة".
فمن خصائص الثورة المضادة أنها تمر عبر مراحل، أهمها مرحلة الفعل، وهو ما جسّده الانقلاب في الحالة المصرية، ومرحلة الحرب النفسية، وهي ما نشهده، اليوم، من قرارات معادية لثورة 25 يناير، مثل قانون منع التظاهر، وأحكام استفزازية، سواء التي تتعلق بتبرئة رموز النظام الذي أسقطته الثورة، أو التي تدين رموز الثورة الحقيقية وتعتقلهم.
فكل تصرفات النظام المصري، اليوم، تبين أننا أمام حالة من "الثورة المضادة" التي جاءت لتقضي على مبادئ ثورة يناير. لكن، مثل هذا النظام الذي جاء، أصلاً، للانقلاب على الثورة يقدم خدمة كبيرة لها، لأنه يؤكد، كل يوم، أن الحاجة مازالت ماسة إلى قيام الثورة من جديد. فقمعه الهمجي والممنهج، وتصرفاته الغبية، وقراراته الاستفزازية، وتدابيره المرتجلة، وقضاؤه غير المستقل، وإعلامه الموجّه، وحروبه التي تقتل عشرات المصريين يومياً باسم حماية الوطن، كلها تؤكد الحاجة إلى ثورة جديدة.
إن أكبر حليف، اليوم، للثورة المصرية التي أجهضها الانقلاب هو الثورة المضادة التي جاء بها هذا الانقلاب نفسه. فمن المفارقة أن تكون الثورة المضادة في خدمة نقيضها، أي الثورة من أجل التغيير. فكل خطوة تقدم عليها الثورة المضادة، اليوم، في مصر تعرّي زيف خطاب الانقلاب، وتكشف عن نواياه الحقيقية، وتعرّف الناس بحجم الخديعة التي تعرضوا لها، وتعجل بقيام الثورة.
نجحت الثورة المضادة في مصر في إحداث فرز حقيقي بين أنصار التغيير الحقيقيين وكل الانتهازيين الذين ركبوا موجته، وهذا، بحد ذاته، إنجاز مهم سيمكّن الشعب المصري في حالة قيام ثورة جديدة، وهو أمر جد محتمل، لأنه يصعب استمرار الوضع الحالي، كما هو عليه، أن يميز بين الثوريين الحقيقيين و"كومبارسات" الثورة الذين ينزلون إلى ميادينها، بعد انتصارها، لالتقاط الصور قبل سرقتها.
فحجم العنف المتزايد الذي يمارسه النظام المصري، اليوم، ضد شعبه، وقرارات قضائه الاستفزازية، وإعلامه المتشنج، بالإضافة إلى حالة عدم الاستقرار، كلها مؤشرات تدل على أن "الثورة المضادة" فشلت.
نحن ننسى أن الثورة المضادة في فرنسا بدأت عام 1791، أي بعد سنتين فقط على قيام الثورة عام 1789، بإصدار قانون يقضي بمنع المظاهرات، وحل جميع النقابات العمالية، بدعوى أنها عطلت اقتصاد البلاد، وبالتضييق على الحريات، وباعتقال كل من شكّت بولائه للثورة، وكان تبريرها دائماً حماية الثورة نفسها. وكان زعيم هذه الثورة المضادة شخصاً دموياً، اسمه روبسبيير، لمع نجمه بتطرفه وخطبه البارعة التي زادت من شعبيته نصيراً للثورة. وعندما استولى على السلطة، من خلال آليات الثورة نفسها، مستغلاً ما كانت تعاني منه فرنسا من إضرابات سياسية واجتماعية، تحول إلى طاغية مستبد. ساهمت أفعاله الدموية وقراراته الاستبدادية في تشويه وجه الثورة. بدأ بالقضاء على كل من اعتبرهم "أعداء الثورة"، وأعدم معظم زعماء الثورة الحقيقيين، وقاد إلى المقصلة آلاف الناس البسطاء، باسم استعادة النظام، وصد خطر الغزو الخارجي، حتى عرفت فترة حكمه بعهد الإرهاب، وتم تخليد اسمه كأكبر السفاحين الذين عرفهم التاريخ. وكان من شأن إرهابه، وخطبه النارية، أن أخافت منه حتى أقرب معاونيه الذين انقلبوا عليه، وتم إعدامه عام 1794، بالمقصلة نفسها التي أباد بها الآلاف، باسم حماية الثورة والحفاظ على النظام! ومع ذلك، استمر الصراع بين الثورة والثورة المضادة عشرات السنين، قبل أن يستقر الأمر نهائياً، لأنصار الثورة التي رفعت شعار الحرية والمساواة والأخوة.
عندما أتأمل ما بجري في مصر، اليوم، أرى في زعيم الانقلاب المصري، عبد الفتاح السيسي، روبسبيير الثورة المصرية، فما أشبه الليلة بالبارحة.