محنة رشيد ميموني (1945 - 1995) الروائي الجزائري، الذي مرّت ذكرى رحيله الأسبوع الماضي (12 شباط/ فبراير)؛ وهو يتأبّط حقائبه خفية، ويغادر الجزائر مرغماً، مطلع التسعينيات، لن يكتبها في رواية، سيعيش لحظات غربتها ألماً وحسرة؛ حتى وهو يختار بمحض إرادته، مدينة طنجة المغربية، رفقة أسرته الصغيرة، لعلها تؤنس غربته، وتذكّره بأجواء الجزائر؛ بلده الذي أحبّه، وأراده أن يكون أجمل وأفضل. كان بإمكانه أن يختار اللجوء لفرنسا، لكنه فضّل المغرب "لأنه الأقرب إلى رائحة الجزائر".
هناك في المغرب، سينهي إنجاز روايته "اللعنة" وسيهديها إلى رفيق دربه في الإبداع والنضال، الروائي الطاهر جاووت (1954 - 1993) هكذا سيكتب: "إلى ذكرى صديقي الكاتب الطاهر جاووت، المغتال من بائع متجوّل، وبأمر من مطّال سابق".
لم يصمت، رشيد ميموني، ولم يفكر في مغادرة الجزائر، لم يهادن، لم يرضخ للأمر الواقع. سيفضح الهمجية التي تنوي الفتك بالبلاد، وإغراقها في طوفان الفوضى. كان جاهزاً لتحمّل مسؤولية كتاباته، حتى وهو يتلقى تهديداً صريحاً بهدر دمه.
كتب مقالات صريحة فيما أتاحته صفحات الجرائد، عن الوباء المحدّق بالبلاد. سيتوقف عن تأليف الرواية قليلاً، ليكتب موقفه من الخطر الوشيك، الكتابة باتت بالنسبة إليه واجباً أخلاقياً.
المجال لم يعد لنسج الخيال، خارج اللحظة التي يعيشها. ليطرح سؤالاً ملحاً: لماذا وصلنا إلى هذا الوضع؟ وما العمل؟ هكذا سيكتب "من البربرية عموماً، إلى الإسلاموية خصوصاً". يقول عن كتابه : "كان أشبه بصرخة ملحّة تعتمل في داخلي. كتبته بسرعة فائقة عشية الانتخابات التشريعية في ديسمبر/ كانون الأول 1991، قصد التنبيه إلى المخاطر التي كانت تحدّق بالجزائر، في حال استيلائهم على الحكم".
هكذا سيجنّ جنون حرّاس النوايا، وسيفكرون كعادتهم في الانتقام منه بأبشع وسائل الترهيب، سينتقلون من الاتصالات الهاتفية المتكرّرة "من مجهولين يقولون لك أنت كافر، وسنقتصّ منك، أو يشتمونك بمختلف النعوت، وأحياناً ترن السماعة، فتسمع مجرّد لهاث، أو صدى سكين يشحذ"... كما قال، إلى مرحلة أخطر، لم يستطع إزاءها المقاومة؛ مرحلة تهديد عائلته الصغيرة: "لم أحتمل أن تطاول تلك التهديدات عائلتي وأبنائي، لدي طفلة عمرها 13 سنة، هدّدوها بالقتل، رنّ الهاتف فأجاب ابني الأصغر، فطلب المتّصل المجهول الحديث إلى ابنتي، ذاكراً اسمها، عندما أمسكت السماعة هدّدها بالقتل، وتكرّر هذا ثلاث مرّات؛ لم يعد الأمر يطاق، وهكذا قرّرت المغادرة"...
في المغرب، سيحاول عبثاً تغيير أجواء الرعب، سيعيش ثنائية الأمن واللاأمن، هواجس الأحداث ستلاحقه، وسيكتب "اللعنة" آخر رواياته، عندما يتحوّل إلى شاهد عيّان عاش أهوال العشرية الحمراء وهي في أوج عنفوانها؛ وسينتقم، ببعض التقريرية "المتعمّدة" بعيداً نوعاً ما عن نسق الكتابة السردية كما في أعماله السابقة، من هؤلاء الذين نغصوا عليه حياته في بلاده، من هؤلاء الذين اغتالوا خيرة أبناء هذا الوطن، ومن الظروف التي أتاحت لهم أن يصيروا سادة الرعب.
في المغرب قضى ميموني، سنواته الأخيرة، بعيداً عن أجواء الجامعة التي كان يدرّس فيها؛ بعيداً عن طلبته، وعن مدينته، وعن أصدقائه. عاوده المرض من جديد، ازدادت شدّته مع غربة الوطن المفتقد، وسؤال الراهن والمستقبل. لم يكتب شيئاً مهماً، استعصت عليه الكتابة، وغاب الإلهام؛ تماماً كما توقّع، يوم يودّع بلده، قائلاً في حسرة: "عندما أغادر الجزائر، سأفقد منابع حياتي، سوف لن أتمكن من الكتابة".