في صالة فندقه الغرناطي، القريب من قلب المدينة القديم، كان لقاء "العربي الجديد" برشيد بوجدرة، الإشكالي في نظر البعض، والراديكالي في نظر آخرين. لكنه الجريء في نظر الجميع وصاحب أكثر من ثلاثين كتاباً معظمها في الرواية كتبها بين العربية والفرنسية.
* كم في رصيدك الأدبي حتى اللحظة؟
- 27 رواية، ثلاث مجموعات شعرية، 15 سيناريو حُوّلت إلى أفلام. وعندي كتاباتي الصحافية الأسبوعية في الجزائر، وهي مستمرة منذ عام 1975 ولم أتوقف.
* لماذا لم تتوقف؟
- لأنني أعتبرها مداخلة اجتماعية واجبة. فالفنان المعزول في برجه العاجي، بحاجة إلى نافذة يطل منها على الناس، ويتواصل معهم.
* يعتبرك كثيرون في المشهد الثقافي الجزائري والعربي، كاتباً إشكالياً، سواء في رواياتك أو مقالاتك.
- هذا صحيح تماماً، وهذا ما أردته منذ الرواية الأولى: كتابة الرواية كتصميم وتنظيم للقطات سينماغرافية. لدي علاقة وطيدة مع الفن التشكيلي، فأنا عاشق للرسم، وأدخلت في رواياتي غيرَ قليل من المشاهد الإشكالية واللوحات العالمية، فأقحمت لوحة أوجين دولاكروا، لأنه رسام كبير ومعروف، وفي الوقت نفسه كان مسؤول المخابرات العسكرية في المغرب، في فترة الاحتلال الفرنسي للمغرب الأقصى.
* ما اسم هذه اللوحة؟
- "نساء الجزائر في بيوتهنّ"، وهنّ في الحقيقة كنّ مومسات يلتقيهن دولاكروا في الماخور. والغريب في الأمر، أنه بعد قرن تقريباً، أعاد بيكاسو صياغة اللوحة.
* متى حدث ذلك؟
- في السنة الأولى للثورة الجزائرية (1955)، في لوحة شهيرة أعطاها بيكاسو اسم "نساء جزائريات". وقال بيكاسو إن ديلاكروا جعل تلكم الجزائريات مومسات، وأنا جعلت منهن مقاتلات.
* في أية رواية لك ورد هذا؟
- في رواية "المَرَث" الصادرة عام 1986. وهي من رواياتي الضخمة (600 صفحة) وثاني رواية أكتبها بالعربية مباشرة. وأقول هذا كمثَل تطبيقي حول مسألة العلاقة بين التشكيل وفن الرواية.
* من هم آباؤك الذين تأثّرت بهم في الأدبين العربي والعالمي؟
- أولاً، تأثّرت بكتاب "ألف ليلة وليلة"، لأنها أحدث رواية عرفتها الإنسانية حتى يوم الناس هذا. ثانياً، القرآن الكريم ـ رغم أني غير متدين ـ لأنه من ناحية اللغة والكتابة، هو أروع نص كذلك عرفته الإنسانية مكتوباً بالعربية. ثالثاً، بالأدباء الأميركيين، وعلى رأسهم وليم فوكنر ودوس باسوس، كذلك تأثرت بجيمس جويس.
* وبالنسبة للرواية الحديثة؟
- تأثرت بالفرنسي كلود سيمون، وكذلك تأثرت بمجمل كتّاب أميركا اللاتينية، وفي المقدمة منهم غابرييل غارثيا ماركيز وأنطونيو لوبو.
* ومن الروائيين العرب؟
- غالب هلسا وإميل حبيبي وعبد الرحمن منيف. ومحمد ديب كمؤسس فقط. فالأخير في ثلاثيته الروائية "الدار" أسس للرواية المغاربية بصفة عامة، رغم كل ملاحظاتي عليه. كما تأثرت بكاتب ياسين أيضاً، الذي يعتبر من أتى بالحداثة للرواية الجزائرية، ولهذا فهو أستاذي على المستوى الجزائري.
* لك ملاحظات قاسية على الرواية العربية عموماً، تطاول مؤسسها نجيب محفوظ؟
- لأن الكتاب العرب بالمجمل لا يكتبون الرواية بالمعنى الفني الدقيق، بل يكتبون حول الأنثربولوجيا والسوسيولوجيا: كيف يشرب المصري الشاي، مثلاً، بينما الرواية لها أُسس. الرواية تؤسَّس على شعرية النص. ومحفوظ كمثال لا حصراً، قليلاً ما تجد لديه هذا. كذلك، فالرواية تؤسّس على تركيب النص والتراكم المعرفي فيه. لقد أدخلت في رواياتي الكثير من الرياضيات وابن خلدون وغيرهم.
* تقصد حضور التاريخ في الرواية؟
- نعم. دائماً ما تركّز الرواية الحديثة على التاريخ وليس السياسة، مثلما فعلت في رواية "معركة الزقاق". حيث استغللت قراءة ابن خلدون لدخول المسلمين إلى الأندلس، وكذا ما أتى به الرجل من أمور نفسية، مثل علاقة طارق بن زياد مع موسى بن نصير، التي كانت سيئة. يقول ابن خلدون: "ولمّا علمَ موسى بانتصار طارق، حرّكته الغيرةُ". وكما ترى، فابن خلدون الذي كتبَ ذلك في القرن العاشر الهجري، استبقَ سغموند فرويد وعلم النفس والتحليل النفسي. وكل هذا اشتغلت عليه في "معركة الزقاق"، التي أظنّها من أجمل ما كتبت.
* ماهي الرواية التي أتعبتك أكثر من غيرها في ما كتبت؟
- إنها رواية "ألفٌ وعام من الحنين"، وهي محاولة في قراءة ألف ليلة وليلة من منظور حداثي. وقد صدرت عام 1979 ونجحت في العالم العربي. والغريب أن نجاحها الأكبر في المبيعات كان في دول الخليج.
* لمَ أتعبتك؟
- لأنها تناولت العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وكيف كانت العلاقات بين الشاعر، العالِم والسلطة. أقحمت فيها كذلك كل الثورات ضد السلطة آنذاك: القرامطة وثورة الزنج، والعلاقات الديالكتيكية التي كانت تطغى على العالم السياسي آنذاك.
* لو قلنا بما أن كل فنان سيتبقى منه القليل، ماذا تودّ أن يبقى من أعمالك بعد مرور قرن مثلاً؟
- هذه الرواية بالضبط، ولهذا السبب تحدّثت عنها هنا. فقد اشتغلت فيها على شأنين أصيلين هما: هاجس الحداثة عندي، وهاجس التاريخ العربي الإسلامي الذي أحمله في جيناتي.
* لديك 3 كتب شعرية فقط؟
- أنا أستغرب هذا العدد الضئيل، لأن رواياتي جميعاً مؤسسة على النص الشعري، أولاً وقبل كل شيء. وحسب رأيي، فالرواية عندي هي أساساً النص الشعري.
* والسرد؟
الرواية السردية لا تهمّني ولا تعنيني، وأنا ضد هذا الفارق المصطنع، المُختلَق من قبل بعض النقاد، واضعي الحواجز بين النص الشعري وشقيقه النص الروائي.
* مع أن كثيراً منا يفضّلون الرواية السردية ولهم تحفّظ على نقيضتها الشعرية أو المشعرنة؟
- بالضبط! أنا لست من هؤلاء الكثيرين، بل أحمل رؤية مضادة لهم.
* أفهم من قولك، أنك تعاضد وتناصر الشعراء الطامحين إلى كتابة الرواية؟
- طبعاً هذا أحسن لهم: إقحام الشعر في السرد. هذا أساسي.
* رأيك في المشهد الثقافي الجزائري والعربي حالياً؟
- دوماً ما أرى نوعاً من الإبداعات الجزائرية والعربية لها طابع كوني، ومعروفة في العالم أجمع إلا في عالمنا العربي. فللأسف، في بلادي حالياً لا يوجد روائيون، بينما لدينا في الفن التشكيلي رسامون كبار، مثل العراقي ضياء العزّاوي، والجزائري رشيد قريشي، والمغربي أحمد الشرقاوي. وهؤلاء دخلوا المتاحف العالمية الكبرى مثل "اللوفر" و"الغوغنهايم"، ولا أحد من العرب يعلم بذلك.
* ما الذي تودّ قوله للقارئ العربي الآن؟
- فكرة بسيطة: الفن، بصفة عامة، غائب في بلداننا، رغم أننا نشاهد كل الفنون موجودة ومتاحة في الشارع الغربي.. حتى في الشارع!