رشيد المومني.. ثلج على جبهة الشعر المغربي

05 نوفمبر 2014
الشاعر في بورتريه لعماد حجاج (العربي الجديد)
+ الخط -

في المشهد الشعري المغربي، يجلس رشيد المومني على هضبة بعيدة يرعى أحلامه عليها، تاركاً للعالم مهمة تغيير نفسه بنفسه. ينتمي الرجل إلى فصيلة النُّسَّاك الذين يشتغلون بدأب وصبر على النص الشعري، مازجاً في عمله بين الكتابة والتشكيل.

منذ 43 سنة، تعاقبت مجموعاته الشعرية مثل منحوتات من الرخام، بذل الفنان فيها جهداً متواصلاً كي تظهر بالشكل الذي يرضيه. "العربي الجديد" أخرجه من عزلته، هو الذي لم يُدْلِ على مدار عقود إلا بحوارات نادرة.

في الفترة الأخيرة، راج خطابٌ يشكك في قيمة القصيدة المغربية. سألنا المومني إن كان الأمر يتعلق بظلمٍ أو بسوء تقدير لها، أم أنها، حسب ما يراه البعض، لم تستطع أن تجد لها حيزاً شاسعاً ومقنعاً مقارنةً بالقصيدة القادمة من المشرق العربي.

فوجدناه غير مطمئن إلى أي خطاب يميل ـ إما عن جهل أو على أساس نية مبيّتة ـ إلى تناول أي ظاهرة إبداعية بلغة الإشفاق أو التعاطف؛ ذلك أن "القصيدة المغربية، وفي سياق هذا السؤال الذي اعتدنا سماعه من منابر غير بريئة، تبدو كسيدة متعبة، تعاني من حالة سريرية قد تفضي بها إلى الموت، أو إلى فترة من النقاهة المحتملة، كما تبدو في السياق ذاته مدانة بجرم ما، ربما لم يتم الحسم في صحته أو بطلانه؛ إلى جانب تقديمها في وضعية من يستميت عبثاً لتأمين فسحة ضيقة داخل مشهد شعري يستبدّ بفضائه شعراء المشرق العربي".

والحال أن مقاربة الشعر ـ أياً كانت هويته الجغرافية ـ تستند، بحسبه، إلى أسس نظرية ومعرفية مستقلة بأجهزتها المفاهيمية التي تتعدد بتعدد مرجعيات هذه المقاربة.

من هذا المنطلق، يؤكد صاحب "ثلج مريب على جبهة الحطّاب" بأن الشعر المغربي الحديث، الذي يعود انطلاقه إلى الستينيات، غير معني بهذا التساؤل، لأنه منشغل بأسئلته المعرفية الحارقة التي رافقته وترافقه على امتداد كل هذه العقود؛ أسئلة مكّنته، بفضل إدماجه لها بكثير من المجاهدة والمكابدة والاجتهاد في شعريات الأفق العالمي، من انتزاع اعتراف منابر عالمية احتضنت تجاربه القوية والأساسية، سواء من خلال ترجمتها، أو من خلال الاحتفاء بها في تظاهرات كبرى.

علماً أن الإبداع - يقول المومني- لا يمتثل أبداً في مساراته إلى تلك التصنيفات المانوية، على غرار الشرق والغرب، الشمال والجنوب، لأن من طبيعة هذه المسارات أن تكون ملتوية وحلزونية ومتشعّبة، إلى جانب اندفاعها التلقائي في جميع الاتجاهات المهيأة ثقافياً لمحاورتها والإنصات إلى خصوصياتها.

يشهد المغرب، مثل باقي البلدان العربية، تراجعاً في مواكبة الشعر وفي المتابعات النقدية والنقاشات التي تتحدث عن القصيدة وسبل تطويرها. وحول هذه المسألة، يرى المومني، وهو من القلائل الذين يخرجون من حين إلى آخر بمقالات تتحدث عن الشعر من الداخل؛ أن هذا التراجع هو امتداد للتراجع الشامل الكبير والخطير الذي انتاب المشهد الثقافي في السنوات الأخيرة، وانعكست آثاره السلبية على كافة الحقول المعرفية. لقد أمسى السؤال الثقافي، بحسبه، متعِباً وثقيل الظل، فلم يعد يغري الفاعلين بهدر القليل من الطاقة الفكرية لتقليب مواجعه .

لكن هذا التراجع الملموس الذي طال حركية وحيوية المشهد الشعري، على مستوى النقاش والمتابعة، لا يعني بالضرورة، حسب المومني، تراجع الكتابة الشعرية، سواء على مستوى الكم أو النوع، بقدر ما يعني "ظهور اجتراحات مستقبلية جديدة ومغايرة، قادمة من مساكن الأسماء المكرّسة، وأيضاً من أرخبيلات الأجيال اللاحقة؛ علماً أن المحاورة الموضوعية لهذه الاجتراحات، تحتاج إلى مناخ ثقافي ومعرفي، ربما لم يحن أوانه ولم تتبلور بعد شروطه".

لذلك، ستظل التجارب الشعرية في المغرب، وفقاً للمومني، بحاجة ماسة إلى كل تلك المبادرات الاستثنائية التي تضيء مساراتها المستسلمة لفتنة البحث عن جغرافيات محتملة لإقاماتها.

أكثر من أربعين سنة مرّت على عمله الشعري الأول "حينما يورق الجسد" (1971)، قضاها المومني في كتابة قصيدة النثر، وفي الاشتغال على النص الشعري بمعزل عن تلك المؤثرات التي توجد خارجه، والتي دفعت الشعراء إلى الإقامة أحياناً في أراض ليست أراضيهم.

عن هذه التجربة، يقول: "أكثر من أربعة عقود، ومع ذلك يبدو لي أحياناً أن حبر هذه التجربة لم يجفّ بعد. تلك هي صيرورة الزمن الشعري المستقلة بقوانينها، والتي قد يأخذ فيها عقدٌ كامل شكل لحظة عابرة، بالكاد تقيس الروح مدّتها. ربما يتعلق الأمر بتلك الدهشة الأبدية التي تسكن الجسد، كلما راودته فكرة الدنو من بيت القصيدة؛ دهشة تتقاطع فيها الرغبة في النشوة، بالمعرفة المتجدّدة المستمدّة من عمق الاختيارات والانصهارات الحتمية التي تمليها عليك التجارب الحياتية والفكرية؛ تلك التي تتربّص بك في منعطفات العمر، أي في منعطف الخسارات، كما في منعطف إنجازات غالباً ما تكون مكلّلة بتيجان أوهامها. وهذا ما يمنح للعلاقة الشعرية أكثر من إمكانية لاكتشاف ممكن ومحتمل، لا تكف فيهما ـ وبهما ـ تلك القصيدة الملعونة التي سمّيتها بقصيدة النثر، عن إهدائك ما قلّ ودلّ من أسرار تجَلٍّ، هو بعضٌ من تجلّي الكون، كما هو بعض من تجلي الكائن".

دلالات
المساهمون