مثّلت رسالة وزير الخارجية الأميركي مارك بومبيو إلى مجموعة العمل الخاصة بحقوق الإنسان في مصر التي أبدى فيها قلقه من الأوضاع داخل السجون إثر وفاة الرئيس المعزول محمد مرسي أثناء محاكمته الشهر الماضي، مفاجأة للدبلوماسية الرسمية المصرية، التي آثرت الصمت وعدم الرد حتى الآن على هذه الرسالة باعتبارها لم توجّه بشكل علني للحكومة المصرية، وأنه تمّت مناقشتها في سياق التعاون بين واشنطن وهذه المجموعة، التي تمنع السلطات المصرية عدداً من أعضائها من دخول مصر منذ سنوات، ومن بينهم الباحثة بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ميشيل دن، فيما تمضي القاهرة قدماً نحو مزيد من تقييد الحريات وإساءة معاملة السجناء وحرمانهم من حقوقهم الطبيعية في التريض والعناية الصحية والتواصل.
وعلى الرغم من أن الرسالة لم تحمل تعهّدات بالتحقيق في ملابسات وفاة مرسي ولا في البحث بتقديم دعم أميركي رسمي للمساعي الحقوقية للتحقيق الدولي في هذا الحادث، إلاّ أنها تماشت بشكل واضح مع تقرير الخارجية الأميركية الأخير عن حالة حقوق الإنسان في مصر. ويظهر اتساع الفجوة بين ما تضمّنه من تعابير وبين ما اعتاد بومبيو نفسه ترداده بالإشادات المتكررة بالنظام المصري في ملفات عدة، مجاراة للتقارب السياسي بين السيسي وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وهو ما يؤكد عدم رضا جميع دوائر وشخصيات البيت الأبيض عن استمرار التعاون مع السيسي، وتجاهل ممارسة الضغوط لتحسين أوضاع حقوق الإنسان والتعامل مع المجال العام بمعناه الواسع، بما يتضمن الحريات الشخصية والعامة على حد سواء، تحديداً أوضاع حرية التعبير والنشر والتنظيم والمشاركة السياسية والعمل الحزبي والأهلي، إلى جانب محاور أخرى تمسّ الجرائم طويلة الأمد المنسوبة لهذا النظام، المتعلقة بإراقة الدماء والقتل المنظم والإخفاء القسري والمحاكمات غير العادلة والإعدامات.
وطالما انتقدت منظمات حقوقية دولية وإقليمية أوضاع السجون المصرية، على رأسها منظمة العفو الدولية التي أصدرت بيانات عدة ضد إجراءات القمع داخل السجون وحرمان المحبوسين من لقاء ذويهم. واعتبرت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، أن "وفاة مرسي بهذه الصورة كانت متوقعة، نتيجة سوء حالته الصحية والإهمال الطبي المعتاد في السجون المصرية وما تعرّض له من تضييق على مدار 6 سنوات من الحبس الانفرادي"، فيما صنّفت منظمة "هيومن رايتس مونيتور" السجون المصرية كالأسوأ في العالم.
وتعكس رسالة بومبيو نجاحاً مضطرداً للعمل الذي تقوم به المنظمات والنشطاء الحقوقيون المهتمون بالأوضاع في مصر في الفترة الأخيرة في اجتذاب أنظار واهتمام مسؤولين مقرّبين من ترامب، بعد 4 أشهر فقط من أخذ مكتب الديمقراطية بالخارجية الأميركية جميع الملاحظات التي اعتادت المنظمات الأجنبية والعربية تقديمها إلى واشنطن سنوياً بمناسبة إعداد التقرير السنوي، على عكس السنوات السابقة من عهد السيسي، التي كانت الخارجية تختصر فيها العديد من الملفات وتستبعد موضوعات بعينها.
وتمثل الرسالة أيضاً ضربة لجهود داخلية مصرية تبذلها الحكومة وجهاز المخابرات والهيئة العامة للاستعلامات، لتحسين صورة حقوق الإنسان، استعداداً لآلية المراجعة الدورية أو الاستعراض الدوري الشامل لحقوق الإنسان هذا العام، الذي كان قرب موعدها أحد الأسباب التي دفعت الحكومة لتمرير قانون تنظيم العمل الأهلي بصورة عاجلة منذ أيام، فضلاً عن إطلاق منصة إلكترونية باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، تتضمن قاعدة بيانات محلية ودولية عن موضوعات حقوق الإنسان وتعامل النظام معها، في محاولة لافتعال اهتمام استثنائي من قبل الدولة المصرية بالأوضاع الحقوقية، ولمجابهة التآكل المطرد في رصيدها بسبب التقارير الغربية التي تدين سياسة السيسي في هذا الإطار.
وسبق أن وجهت منظمات حقوقية عدة أبرزها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان و"كوميتي فور جستس" ومؤسسة حرية الفكر والتعبير ومركز النديم، مناشدة إلى الصليب الأحمر الدولي والهيئات الأممية المعنية بحقوق الإنسان للضغط على الحكومة المصرية للسماح للمنظمات الحقوقية المصرية والدولية والمجلس القومي لحقوق الإنسان بزيارة السجون، على أن يتم نشر تقريرهم حول أوضاع السجون وتوصياتها علانية. كما تطالب المنظمات الموقعة بالسماح لفريق من خبراء مستقلين تابعين للأمم المتحدة بالوقوف على أسباب وفاة مرسي والتحقيق في الأمر، وكذلك محاسبة المسؤولين عن الإهمال الطبي الذي تعرض له مرسي، ويهدد حياة غيره من المحبوسين.
وعلقت مصادر دبلوماسية مصرية على توقيت توجيه الرسالة بعد امتناع الخارجية الأميركية عن إعلان موقف صريح وقت وفاة مرسي، بأنه يجسّد بالضبط السياسة الأميركية الحالية في التعامل مع ملف حقوق الإنسان في مصر، فبومبيو ومن خلفه مكتب الديمقراطية ونواب في الحزبين الجمهوري والديمقراطي يعلمون جيداً أن ترامب لن يدخل في صدام مباشر مع السيسي بسبب هذا الملف، ولكن لا مانع من ممارسة بعض الضغوط وتوجيه رسائل بعضها مباشر والآخر غير مباشر لإشعار السيسي دائماً بأنه يقع تحت الضغط.
وأضافت المصادر أنه "لا يمكن تجاهل عدم رضا المنظمات الأميركية المانحة التابعة للحزبين الجمهوري والديمقراطي عن علاقة الحكومة بالمنظمات المحلية والأجنبية العاملة في مجال حقوق الإنسان، لا سيما أنها ترى أن قانون تنظيم العمل الأهلي لا يحمل حلاً نهائياً للقضاء على التدخل الحكومي والتوجيه والتقييد ومحاولة الاستئثار بميدان العمل الاجتماعي والتنموي".
وكشفت المصادر أنه "قبل أسابيع قامت بعض المنظمات الأميركية التي كانت قد أوقفت تمويل مشاريع تنموية في مصر منذ عامين على الأقل احتجاجاً على صدور قانون العمل الأهلي رقم 70 لسنة 2017، بإبلاغ الخارجية الأميركية بأنها لن تعود لممارسة أنشطتها التمويلية إلاّ بعد فترة من تطبيق القانون الجديد، وذلك لاختبار نوايا نظام السيسي إزاء العمل بالملفات الخاصة بالتحول الديمقراطي والمساعدة القانونية للسجناء وغيرها من المجالات. مع العلم أن وقف التمويل الأميركي لهذه الأنشطة كان القشة التي تسببت في قرار واشنطن السابق في صيف 2017 بتجميد نحو 290 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية والعسكرية لمصر لمدة 13 شهراً".
وأوضحت المصادر المصرية أن "بومبيو يعلم جيداً أيضاً ما يمثله وضع المؤسسة العسكرية وجهاز المخابرات في الحياة الاقتصادية بشكل خاص، كمصدر قلق للدوائر الأميركية المؤثرة لتهديده مصالح المستثمرين الغربيين بشكل عام، خصوصاً بعدما تحدث أعضاء بالحزبين الجمهوري والديمقراطي في اجتماعات الغرفة التجارية المشتركة في القاهرة مطلع العام الحالي، عن تهديدات واضحة وخسائر بالمليارات يتكبدها مستثمرون أجانب بسبب احتكار الجيش للعديد من القطاعات".
وكان تقرير الخارجية الأميركية عن حقوق الإنسان قد تحدث عن دور الجيش كوسيلة سياسية في يد السيسي. وهو ما اعتبرته مصادر أخرى آنذاك أنه يتضمن رسالة لتصحيح وضعه العام، وبصفة خاصة في المجال الاقتصادي، الذي لم يتناوله التقرير لاختلاف الموضوع، لكن كثافة الحديث عنه في الآونة الأخيرة تجعله ثاني أهم ملف "إشكالي" بين البلدين بعد الملف الحقوقي.
أما الإشكالية الثالثة والتي كان قد تحدث عنها ترامب وبومبيو مع السيسي ومساعديه خلال زيارتهم واشنطن في إبريل/نيسان الماضي فهي الخاصة بالتسليح، إذ ترفض الولايات المتحدة في المبدأ شراء دول كمصر وتركيا والهند أسلحة روسية، وتحديداً طائرات "سوخوي-35" التي تعاقدت مصر نهاية العام الماضي مع روسيا رسمياً لشراء نحو 20 طائرة منها في الفترة بين عامي 2021 و2022 مقابل مليارين وربع المليار دولار، ليس فقط بشأن التنافس مع روسيا في مجال التسليح ولكن أيضاً بشأن "مدى ملاءمة مد يد العون لدولة تشتري أسلحة من منافس للولايات المتحدة، بأسعار تزيد بكثير عن الأسعار التفضيلية التي كانت تحصل بها مصر على الأسلحة من واشنطن، في الوقت الذي يحصل فيه الجيش المصري على دعم سنوي من الولايات المتحدة".