رسالة إلى يزن

02 يونيو 2016
+ الخط -
يتصل يزن ليزفّ لي، عبر الهاتف، خبر استكمال كل متطلبات تخرجه من الجامعة. ويزن هو أصغر أبنائي الذكور. أفرح، طبعاً، لهذا الإنجاز الجديد، في مشوار حياتي، وأتمنى لو كان الولد "العفريت" الذي طالما خفت عليه من شقاوته، يقف الآن أمامي، لأحتضنه، وأقول له ما صار متيقناً منه، بمجرد أن خفتت، قليلاً، إفرازات هرمونات المراهقة في دمه، وهو أني أحبه، بقدرٍ يزيد كثيراً على تشدّدي معه، أو قسوتي عليه، كلما كان يقترف خطأ ما، ثم أتذكّر على الفور، وسط شعوري ببعض الاطمئنان، أن ما تبقى في انتظاري من المهام لمُقبل السنين، قد لا يكفيها ما بقي من عمرٍ بدأت تعصف به رياح الخريف.
لكن، ما شأنكم أنتم، وتلك القصة الشخصية؟
أتساءل، بعدما تورّطت في استهلال مقالتي بها، فلا أجد جواباً غير التصريح بما يعتمل في نفسي، من قلقٍ مستديمٍ لا يكفّ عن مخالطة مثل هذا الاطمئنان العابر، ويجعلني أشكّ في أني مصابٌ بالعجز عن الإحساس بالفرح الخالص، وسأظلّ على هذه الحال، على الأرجح، ما دمت أعيش في بقعةٍ جغرافيةٍ واحدة، مع بشار الأسد، وعبد الفتاح السيسي، وبنيامين نتنياهو، وقاسم سليماني، وموشيه يعالون وأبو بكر البغدادي، وأفيغدور ليبرمان، وهادي العامري، وآخرين كثيرين يعملون تحت إمرتهم، وينفذون تعليماتهم، بذبح شبانٍ في عمر يزن، وأحيانا أصغر بكثير، أو أكبر، ليقتلوا بذلك أمانيَّ أهلهم، وأحلام شعوب المنطقة كلها، بحياةٍ إنسانيةٍ خاليةٍ من سفك الدماء، على الأقل.
كم من أبٍ، وكم من أمٍ، في سورية والعراق وفلسطين ومصر واليمن، أمضوا العمر يكدّون في انتظار لحظةٍ، يرون فيها أبناءهم، وقد غادروا الطفولة، ودخلوا مرحلة الإسهام في معترك الحياة، فحدث أن عصف بهم معاً برميل متفجر، أو قتلهم صاروخ سكود، أو مزّقتهم سيارة مفخخة، ناهيك عن اقتياد كثيرين منهم، على أيدي جلادي أجهزة الأمن، ليلفظوا أنفاسَهم، أو يتعفنوا تحت التعذيب، في سجون الطغاة، وسَوْقِ آخرين على أيدي القتلة القادمين من كهوف التاريخ لذبحهم كالخراف، وتقطيع جثثهم، وحرقهم أحياءً، وموتى، تحت شعارات الثأر لله من الكفار والمرتدين، حيناً، والانتقام لنسل رسوله، أحياناً أخرى.
يحدث اليوم، مثلاً، وبالتزامن مع اللحظة التي تلقيت فيها بشرى شخصيةً بتخرّج ابني من الجامعة، أن يقع عشرات الألوف من الآباء والأمهات والأبناء بين ناريْن، في مدينة الفلوجة العراقية، وأن يجدوا أنفسهم أمام إكراهات الموت تشظياً بوابل القصف الجوي والمدفعي المحمول على مزاعم محاربة الإرهاب، أو ذبحاً بسكاكين أمراء التطهير المذهبي على جانبي جبهات القتال، كما يحدث أيضاً أن يقف عشرات ألوف من السوريين، أمام إكراهات مروّعة ليس أقلها الموت جوعاً، وكلها قد تختلف، شكلاً، عمّا يتعرّض له العراقيون، بقدر ما تتلاقى معه جوهرياً، من حيث وحشيته الخارجة عن القيم الإنسانية.
وربما يكون من أبشع معاني المذبحة المستمرّة التي نتعرّض لها، شعوباً وقبائل، منذ سنين عددا، أن مرتكبيها يُزيفون حقائقها، فيصدّقهم العالم الذي يُسمي نفسه بالحر، ويتواطأ مع جرائمهم، إن لم يشاركهم ارتكابها، فنرى الجنرال قاسم سليماني، وهو المُسمى قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، يقود حرب التوسع الفارسي في العراق وسورية، بجيوشٍ من أبنائها المسحورين بالصراع المذهبي، ولا يستشعر أيَّ حرجٍ، إذ يندّد بالتدخل الخارجي، لكأنه ابن بغداد أو دمشق، كما لا يستشعر أي حرجٍ، إذ يشتم أميركا ومؤامراتها، بينما طائراتها تؤمن الغطاء الجوي لمعاركه.
لكن، ما علاقة ذلك كله بولدي يزن؟ أتساءل مرة أخرى، في ختام مقالتي، فلا أجد جواباً سوى القول؛ لعلها رسالة مفتوحة إليه، حتى يُدرك، وقد حصل على شهادته الجامعية في الإعلام، إلى أين هو ذاهب الآن، وأيّ طريقٍ صعبة هي التي سيخطو عليها غداً خطوته الأولى.
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني