رسائل الانتخابات الفرنسية

09 مايو 2017
+ الخط -
تنفسّت معظم العواصم الأوروبية الصعداء، بإعلان فوز المرشح الوسطي، إيمانويل ماكرون، في انتخابات الدور الثاني للرئاسيات الفرنسية. وبذلك يكون هذا السياسي المبتدئ القادم من خارج النظام؛ أو التكنوقراط العابر للأحزاب، كما يوصف، أصغر رئيس يتولى هذا المنصب في تاريخ الجمهورية.
لا تضم السيرة الشخصية للرئيس المغمور الكثير، فباستثناء عمله مصرفياً في مؤسسة بنكية، قبل الانضمام للحزب الاشتراكي فترة وجيزة؛ بين 2006 و2009، ثم تعيينه بعد ثلاث سنوات نائباً للأمين العام لرئاسة الجمهورية الفرنسية لدى الرئيس، فرانسوا هولاند، فوزيراً للاقتصاد والصناعة والاقتصاد الرقمي في حكومة مانويل فالس الثانية، لا دربة تسعف الرجل في إدارة ملفات قصر الإليزيه الشائكة.
وضعت المحطة الانتخابية الحادية عشرة في تاريخ الجمهورية الخامسة حداً للتناوب الفرنسي؛ أي التداول على السلطة بين اليمين واليسار، الذي كان المتغير الوحيد في الحياة السياسية الفرنسية أزيد من نصف قرن، حين تخلف الجمهوريون والاشتراكيون معاً عن بلوغ الدور الثاني من الرئاسيات الفرنسية، وهو تحوّل نوعي يسجل في السلوك الانتخابي الفرنسي. وتكاد تجمع التحليلات على استخلاص خمس رسائل في التصويت والنتيجة، يمكن أن نعتبرها بمثابة الاستثناء الفرنسي:
الأولى: أدرك الفرنسيون يقيناً عجز أنفلونزا الشعبوية، وصيحات الخطاب القومي والنزعة الهوياتية، عن حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، المتراكمة نتيجة سياسات متداخلة، بعضها محلي، وأكثرها مرتبطٌ بنظام عالمي متشابك التعقيد. على الرغم من تنظيم الجولة الثانية للرئاسيات، لأول مرة، في ظل حالة الطوارئ المفروضة على البلاد منذ يناير/ كانون الثاني 2015. لم يختر الفرنسيون، على غرار الأميركيين والبريطانيين، الشعبوية ولا التقوقع حول الذات؛ وعياً منهم بأنها خياراتٌ غير قادرة على تقديم المعجزات لحل الأزمات المتراكمة.

الثانية: إعلان الشعب الفرنسي لبقية شعوب القارة الأوروبية تمكسّه بخيار البقاء في صفوف الاتحاد الأوروبي، واستماتة باريس في الدفاع، إلى جانب برلين وبروكسيل، عن المشروع، على الرغم مما تعرّض له من هزاتٍ (اقتصادية، سياسية، اجتماعية، أمنية...) في السنوات الأخيرة. إذ بات واضحاً أن النزال الانتخابي بين ماكرون ومارين لوبان، كان أقرب إلى استفتاء غير مباشر أو أولي على "الفريكسيت" منه إلى مجرد انتخاب رئاسي لاختيار الرئيس الثامن لجمهورية ديغول.
الثالثة: طموح الفرنسيين يتعدّى مجرد البقاء في الاتحاد الأوروبي إلى الاضطلاع بدور أكبر في هيئاته بعد خروج بريطانيا، وما يعزّز هذا الأمر برنامج الرئيس الجديد الذي أبدى حرصه على احترام تعليمات المنظمة، بما يعزّز الوحدة الأوروبية. كما حرص على إظهار علم الاتحاد مع علم الجمهورية الفرنسية في اجتماعاته خلال حملته الانتخابية. أكثر من ذلك، يعتزم ماكرون استحداث اتفاقيات في جميع الدول الأعضاء في الاتحاد، بهدف الاستثمار من جديد في المشروع الأوروبي، إلى جانب العمل على إنشاء صندوق أوروبي للدفاع.
الرابعة: التمرّد على المؤسسات الحزبية التقليدية بأيدولوجياتها المختلفة، ونخبها المهزومة، التي لم يعد خطابها ولا أداؤها مقنعاً للمواطن الفرنسي. ما دفع جزءاً كبيراً من المجتمع الفرنسي الغاضب والقلق إلى المغامرة، والبحث عن بدائل جديدة خارج الأنساق الكلاسيكية المألوفة. واختار بذلك أن يجرّب هذا الوجه الجديد، القادم من خارج الأوساط السياسية المعروفة؛ على الرغم من تواضع سجله في المجال السياسي، غير أنه في نظر كثيرين أقلّ سوءاً من النخب الحزبية الفاسدة والمترهلة التي لم يعد خطابها يلقى أذاناً صاغية وسط الفرنسيين.
الخامسة: التأسيس الفعلي؛ شعبياً هذه المرة، للجمهورية السادسة من خلال التصفية الهادئة والتدريجية لتركة ديغول، بإعلان الموت الرمزي ليلة 23 أبريل (نيسان) الماضي لليمين المحافظ الذي يمثله حزب "الجمهوريون" وريث المبادئ الديغولية، والذي يفترض أن ينجح بدون مشكلات في استعادة الرئاسة من الاشتراكيين، لم يتجاوز لأول مرة في تاريخه الدور الأول.
هذه رسائل الفرنسيين إلى العالم في تصويتهم لصالح إيمانويل ماكرون، لكنها بحاجة إلى أجوبة تعضدُها في الانتخابات البرلمانية الشهر المقبل. الموعد الذي سوف يكون بمثابة الاختبار الأول للرئيس الجديد؛ كتكنوقراط متمرّد على المؤسسة الحزبية، في مدى قدرته على اقتناص أغلبية حكومية مريحة، تمكّنه من قيادة البلاد بنفس نيوليبرالي في خيار ثالث يجمع بين الحسنيين، قاطعاً بذلك الاصطفافات السياسية التقليدية داخلياً، فاسحاً المجال خارجياً لإمكانات أخرى، خارج ثنائية التقوقع على الذات أو براثين الشعبوية، مؤسساً للاستثناء الفرنسي، في عالم تغزوه موجات الانعزالية والتطرّف والقومية.
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري