رذاذ باريس

17 نوفمبر 2015

كل الورد لأرواح ضحايا الإرهاب في باريس (16 نوفمبر/Getty)

+ الخط -

 

 

حين يهطل المطر في باريس، يتساقط رذاذاً ناعماً، هفيفاً، وعلى درجة من الخفّة، جعلته يسمّى "كراشان" (crachin)، أي ما يجعله أقرب إلى البصاق المتطاير من أفواه بعضهم في أثناء الكلام، مضفياً بعضَ كآبة على مناظر آسرة، توجع الروح لشدة جمالها.

وإذ ينزل رذاذ السماء الباريسية خافتاً، شبه صامت، تتلمِّـع الأرصفة والطرقات، فيعكس أسفلتها الأسود أنوارَ مدينة يكللها الصمت والهدوء بجلال، على الرغم من دبيب الملايين فيها، ودخول الملايين إليها، وخروجهم منها كل يوم. 

هكذا أيضاً سقط القتلى هناك، كرذاذ مدينتهم، وهم يتسامرون فوق أرصفة مقاهي الدائرة العاشرة، مساء الجمعة 13 نوفمبر، أو يستمعون إلى حفل موسيقي داخل قاعة مسرح باتاكلان، أو يعبرون في محيط ستاد دو فرانس. سقطوا بشيء من الصمت، وعلى هدأة، كأنهم في مشاهد مصوّرة قُطع عنها الصوت. فلم يُرَ تفجّع، ولا سُمع صراخٌ أو عويلٌ أو هتافٌ أو توعّدٌ بالانتقام من أيّ كان. حتى إن الناجين أنفسهم الذين التقطتهم كاميرات الهواتف الذكية لأناس يسكنون في الجوار، خرجوا إلى الشارع، من المدخل الخلفي لقاعة "باتاكلان"، حيث سقط العدد الأكبر من القتلى، مهرولين على مهل، فبدوا وكأنهم يحثّون الخطى لا أكثر، متعجّلين الوصول إلى موعد ما، لا مصابين بالرصاص، أو فارّين لتوّهم من مقتلة فظيعةٍ، استهدفتهم وجرت منذ ثوان أمام أعينهم.

الإعلام نفسه التوّاق دوماً إلى تغطية أحداثٍ بهذا الحجم، لم يصب بالانفعال، وبقي خفيض النبرة شبه محايد، فكان كأنه يشهد ما يجري عن بُعد، فلم يُرِ ضحايا وأشلاء، وإنما بعض الجثث الملقاة أرضاً والمغطاة، أو في أكياس، ولم يمرّر رسالة، ولم يُشر إلى جهةٍ، بعينها بإصبع الاتهام، بل إنه لعب دور الحاجز أمام مرور أي خطاب عنصري كاره للعرب والمسلمين، إلى الفرنسيين.

والفرنسيون إذ نزلوا إلى الشارع، إنما فعلوا لكي يهربوا من وحدة منازلهم، ويتشاركوا الحزن الخفيض والدموع الساكتة، فلم يتجمّعوا ليتظاهروا ويهتفوا ويندّدوا ويهدّدوا، ربما لأنهم يعرفون كيف يميّزون أنفسهم، مواطنين، عن دولتهم نظاماً وقراراً سياسياً وسياسة خارجية. لقد أشعلوا شموعاً ورموا باقات ورد، حيث تضرجت الأرصفة بالدماء. بكوا قتلاهم، وجلّ ما قالوه إنهم لن يخافوا الإرهاب، وسيستمرّون في نمط حياتهم، فيما اقتربت صبية فرنسية من شاب مغاربي، كان حاضراً بين الجموع، وقبّلت يده تحت عين كاميرا التلفزيون، لكي تعلمه أنها لن تخلط بينه وبين القتلة الهمجيين، كي تدعو أبناء جلدتها إلى عدم الخلط بين الجالية العربية والمسلمة، وبرابرة التنظيم الإسلامي.    

لكن.

في هجمة أبناء داعش على باريس، لم يكن القتلى فقط هم من سقطوا من الضحايا الفرنسيين، فهؤلاء ماتوا، وسيدفنون ويُنسون ككل الأموات. إلا أنّ من أصابته الهجمة في المقتل، وبقي على قيد الحياة، ولن يموت، ولن يُنسى، وسيدفع الثمن باهظاً طوال حياته، فهو من دون أدنى شكّ الجالية العربية والإسلامية في فرنسا، وسواها من بلدان أوروبا، وهو أيضا جحافل اللاجئين الهاربين بالملايين من أتون الحرب، وبراميل الموت والخراب، وحظوظهم القليلة أصلاً في أن يحظوا بحد أدنى من حياةٍ لائقة خارج بلدانهم.

اليوم، أعلمتنا الدولة الفرنسية أن طائراتها وجّهت ضربات موجعة إلى داعش في الرقة. "موجعة"، قال المحلّل السياسي الفرنسي، مرتبكا أمام أسئلة الصحافيّ، مضيفاً: "أجل، هي ضربات غير مكثفة وغير كافية بالتالي". لكنه لم يقل إن "الوحش" كان ينمو ويكبر ويتمدّد ويتوسّع ويتسلّح وينظّم جيوشه، ويعدّ العتاد، على مرأى من الجميع، وإن أحداً من الذين يدّعون قتاله اليوم، لم يستلّ سيفاً حقيقياً لقطع أطرافه، مكتفياً بالتهويل بسيف خشبي وبعرض عضلاتٍ، يخفي ما يجري تحت الطاولة من حسابات وصفقات.

ومن بيروت، مدينة السيول والدماء والنفايات، إلى باريس، مدينة الرذاذ الصامت الكئيب، كلّ تحية وسلام.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"