رد على رد بشأن الرق في موريتانيا
يحكى أن الشاعر الراحل، عمر أبو ريشة، جاءت إليه ابنته بصديقتها، تعرض عليه شعراً حداثياً جداً، فلما سمعها قال إنه لم يفهم شيئاً، فقالت له: لم تفهم لأنك لا تفهم الحداثة، فقال لها: يا بنيتي أنا أجيدُ ست لغات، وعضو في خمس عشرة أكاديمية، وأحفظ من الشعر أكثر من شعر رأسك، كيف تفهمين شيئاً لا أفهمه.
أستعير مضمون هذه الحكاية، لأرد على الكاتب حسام أبو حامد الذي اتهمني بسوء الفهم في قضايا بلدي التي أعيشها بكل دقائقها وتفاصيلها، ويتعرض لها هو بالكتابة، عَرَضاً من وراء البحار، ونقلاً عن فلان وعلان وعن زيد وعبيد. وهو، في مقاله في "العربي الجديد"، بتاريخ 4 فبراير/ شباط 2015 بعنوان "موريتانيا وأحكام الشريعة"، يلجأ إلى الحيل العقلية والمصطلحات الهلامية، ليوهم القارئ بصدقية آرائه وصوابية مواقفه التي بناها على جهل مطبق بواقع وحقائق بلدٍ يصر على إقحام نفسه في قضاياه، من دون أن يكون لديه أدنى إلمام بواقع هذا البلد وظروفه. ومع أنه لا يهمني غرضه من ذلك، ولست في وارد الدخول معه في معارك كلامية، ولكن أود الرد عليه في بعض ما طرح، وأعيد تأكيد وبسط ما ورد في مقالي السابق، بعد أن حاول أبو حامد تلبيس الحقائق، ولَيّْ أعناق الكلمات.
أولاً: العبارات "غير المهذبة" في مقال حسام أبو حامد، لمجرد أنني ناقشته في مسائل طرحها، وقضايا عرضها، لا تدل على تقبّله الآخر، ولا على إيمان بالقيم التي يدّعي الدفاع عنها، ويحاكم الآخرين على أساسها، وهذا مؤسف جداً، ويدل على حجم ما وصلت إليه بعض نخبنا العربية، حين تُناقَش في آرائها، أو تُراجَع في مواقفها.
ادعى أبو حامد أنني لم أكن أميناً في نقلي كلامه، وأنكر أنه اتهم الفقهاء الموريتانيين بالوقوف مع العبودية، وأود نقل ما كتبه، في مقاله الأول، بالحرف، ليحكم القارئ بيننا، "وتواطؤ السلطتين السياسية والدينية، لتكريس واقع النخاسة، والتمييز في المجتمع الموريتاني". ولا أدافع عن مشايخ الدين في موريتانيا، فلهم أخطاؤهم وخطاياهم، والتي ليس منها ما ذكره أبو حامد من تبرير للعبودية، أو تسويغها، وليذكر لنا أبو حامد اسماً واحداً، لعالم أو فقيه موريتاني معاصر، دعا إلى العبودية، أو بررها. والمضحك أن أبو حامد يدعو علماء موريتانيا "المتنورين" إلى "إصدار فتاوى صريحة تحرّم الرق بكافة أشكاله"، فعلاً "شر البلية ما يضحك".
يا سيدي، أصدر علماء موريتانيا فتاوى كثيرة بتحريم الرق وتجريمه بأشكاله كافة، وعقدوا ندوات ومؤتمرات لهذا الغرض، والمشكلة ليست في الفتاوى، ولا في القوانين. المشكلة أن قضية العبودية في موريتانيا تحتاج إلى جهود أكبر، وعلى المستويات كافة للقضاء على بقاياها وآثارها. وهذا ليس دفاعاً عن الحكومة الموريتانية، ولا عن قراراتها، ولا هو رضا بالواقع الخاطئ، بقدر ما هو دعوة للتدقيق عند التوصيف والتزام الموضوعية في العرض والتناول. أما الحكومة الموريتانية، فلولا فشلها وتحكّم العسكر فيها، وإفسادهم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لما كانت البلاد تعاني ممّا تعاني منه، الآن، من أزمات ومآس.
مرة أخرى، يرجع أبو حامد إلى هوايته في الخلط، ليربط بين تطبيق الشريعة وموضوع الرق، وينسى أن الرق سابق على تطبيق الشريعة الذي قام به الرئيس ولد هيداله، لأهداف سياسية، لا تختلف عن أهداف الرئيس الحالي، محمد ولد عبد العزيز، حين يتحدث عن الإسلام وتطبيقه، في حين أن أفعاله تكذب أقواله. كما أن تطبيق الشريعة لم يعد قائماً في موريتانيا، فقد أوقفه معاوية ولد الطائع مع وصوله إلى السلطة عام 1984، كما أن تحكيم الشريعة لم يعقب انقلاب 10 من يوليو/ تموز 1978، وإنما بعد ذلك بأربع سنوات، خلال فترة حكم الرئيس الأسبق، محمد خونه ولد هيداله. وأنا مع أبو حامد، ومع أستاذنا الدكتور محمد الشنقيطي، في أن تطبيق الشريعة تطبيقاً سليماً لا يمكن أن يكون في مجتمع يفتقد إلى العدالة الاجتماعية وقيم المساواة.
قضية العبودية في موريتانيا موضوع يختلط فيه الحق بالباطل، والحقيقة بالادعاء، ذلك أن العبودية ترسخت في هذه البلاد، وفي غيرها من البلدان العربية والأفريقية، منذ قرون طويلة. ومع ظهور الدولة الحديثة، حاولت موريتانيا، عبر مسار طويل، أن تتخلّص منها عبر إجراءات قانونية وسياسية، حيث اختفت العبودية بشكلها التقليدي، وبقيت آثارها ومخلّفاتها، خصوصاً في القرى والأرياف البعيدة، وبقيت، مثل ظواهر اجتماعية عديدة معقدة، عصية على الحل النهائي، والاختفاء التام.
واليوم، تشهد موريتانيا حراكاً سياسياً ومجتمعياً، للقضاء على بقايا الرق ومخلفاته، بفعل التهميش السياسي والاقتصادي الذي تعاني منه شريحة الأرقاء السابقين، بل وتعاني منه كل شرائح المجتمع الموريتاني، بعد أن فشلت الدولة الموريتانية في تحقيق تطلعات شعبها على المستويات كافة. وهنا، لا ينبغي أن يخطئ بعضهم في قراءة هذا الحراك السياسي والاجتماعي الذي تعيشه موريتانيا حالياً، ليفسره خارج إطاره وسياقه، أو يحوله إلى مظلمة دولية، أو يسوّق به مشاريعه الفكرية المتعثرة.
وبالنسبة لقضية محمد الشيخ ولد مخيطير، وهو بالمناسبة ليس صحافياً كما ادعى بعضهم، بل مجرد موظف في شركة صيد في موريتانيا، كما أن حادثة اعتقاله سابقة على اعتقال النشطاء الحقوقيين أكثر من عشرة أشهر، مع أن محاكماتها كانت متزامنة تقريباً. وقد كتب مقالاً في مطلع شهر يناير/ كانون الثاني 2014، أساء فيه للنبي، صلّى الله عليه وسلّم، وشكك في ذمته وعدالته، واعترف، أمام المحكمة، بخطورة ما كتب، وأثبت توبته أمام المحكمة، وقبلتها المحكمة. أما مسألة قتله من عدمها، فمسألة نظرية، ذلك أن موريتانيا لم يطبق فيها حكم الإعدام، منذ نهاية الثمانينيات، ومن المستبعد أن يطبق في حالة ولد مخيطير، على الرغم من الإجماع الشعبي في موريتانيا على إدانتها وتجريمها.
على الرغم من ذلك، فإن حسام أبو حامد دافع عن ولد مخيطير واعتبره مجرد ناقل وراوٍ لما كتب من إساءات، رغم أن ولد مخيطير لم ينسب كلامه لأي من الرواة الذين سرد أبو حامد أسماءهم فى مقاله، بل طرح مجموعة من الاتهامات والمغالطات فى حق النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وادعى أنه لم يكن عادلاً فى أحكامه وأنه كان يحابي القرشيين على حساب غيرهم، إلى آخر تلك المغالطات السيئة التي لا تختلف كثيراً عمّا نشرته مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية.
مخطئ مَن يعتقد أن قضية ولد مخيطير قضية رأي، لأنها ببساطة تتجاوز الآراء إلى الإساءة لشخص النبي الكريم، صلّى الله عليه وسلّم، لكنها بالتأكيد ليست مبرراً للقتل خارج إطار القانون ما دام قد تاب وأعرب عن استعداده للتراجع عن إساءته، فالله تواب رحيم والقضية الآن بين يدي القضاء وهو صاحب القول الفصل فيها.