ردّ على ردّ... أولويّة السياسي عربيّاً

03 مارس 2015

آثار قصف النظام على حي في حمص (29 أكتوبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

تشكل الظواهر الاجتماعية الكبرى حالة من التشابك والتعقيد، بحيث يبدو من الاستحالة إرجاعها إلى سبب معيّن دون غيره، الأمر الذي دفع علماء السوسيولوجيا السياسية إلى اعتماد المنهج المقارن الحديث، في المرحلة الأخيرة، على حساب المناهج التجريبية والتنمواتية وغيرها، فقد تبدو المعطيات الاقتصادية في حالة ذات تأثير أكبر من المعطيات الأخرى. وفي حالات أخرى، تبدو المتغيّرات السياسية أو الثقافية أو الدينية ذات أهمية أكبر.

لا ينحصر نقاشي مع الكاتب سلامة كيلة وردّه على اختلافي معه (العربي الجديد، 14 فبراير/ شباط 2015)، بإلغاء العامل الاقتصادي في تفسير الظواهر الاجتماعية الكبرى، فكم من دراسة عريقة كشفت أهمية العامل الاقتصادي في تفسير الظواهر الاجتماعية، لكن محاولة تعميم الاقتصادي، وجعله السبب المباشر للسياسي بطريقة حتمية، هو مكمن الخلاف، لا سيما في الحالة العربية بشكل عام، والسورية خصوصاً.

تصدّعت الحتمية الاقتصادية، أول مرة في التاريخ، في البلدان التي توقفت عن اقتطاع حصص كبيرة من ميزانية الدولة لفائدة الحرب، كما تصدعت، بعد ذلك، في أوروبا وأميركا الشمالية، لتنهار تماماً مع قدوم الرأسمالية، يقول السوسيولوجي الكبير، برتران بادي. وربما هذا ما تنبّه إليه ألتوسير، وقبله غرامشي، الذي حاول التخفيف من حدّة الماركسية، لا إلغائها، لأنه أقر أن حتمية النموذج الإنتاجي لن تلعب دورها كاملاً إلا في بعض المنعطفات الكبرى للمنطق السياسي، لكن إقراره بأن للبنى الفوقية استقلالاً نسبياً عن البنى التحتية، أمر لا يمكن الاستهانة بتأثيره. وبالتالي، لا تتم سيطرة الطبقة الحاكمة إلا عبر الهيمنة من خلال تحالفات اقتصادية وسياسية وأيديولوجية مع بعض الفئات الاجتماعية. والمهم بالنسبة لغرامشي أن عملية الهيمنة هذه لا تتم في الدولة، وإنما في المجتمع المدني، ولهذا اعتبر أول منظّر للسياسة الثقافية.

غير أن الأمر احتاج إلى عقود أخرى، لكي تتطور رؤية جديدة للماركسية، تقطع نهائياً مع حتميتها الميكانيكية، من دون إغفال أهمية البعد الاقتصادي، والمقصود هنا التيار الذي نشأ في ستينيات القرن الماضي، على يد ثيدا سكوكبول، وقبلها بارنغتون مور، الذي اعتمد على مجموعة فرضيات، منها الاقتصادية.

لا ينبع التركيز على أولوية السياسي في حالات معينة (من دون إغفال العوامل الأخرى)، من عوامل ذاتية، بل بفعل قراءة لاختلافات الملاحظة إمبريقياً، وتأويلها بالرجوع إلى مقترحات من طبيعة تاريخية، لا سيما في الدول الشمولية والاستبدادية.

يقول صموئيل هنتنغتون إنه إذا كان الفقر يؤدي إلى عدم الاستقرار، فإن تطور التعليم وارتفاع مستوى القراءة والكتابة ووسائل الاتصال العامة والتصنيع والنمو الصناعي والتمدين يجب أن تنتج استقراراً، لكن الواقع يبيّن عكس ذلك، ليس غياب العصرية ما ينتج الفوضى السياسية، بل جهود الوصول إليها، وبالتالي، كيف يمكن تفسير الاستقرار السياسي في الهند، مثلاً، حيث بلغ الفقر حداً كبيراً، في حين تفتقر الأرجنتين وفنزويلا، اللتان تمتعتا بنسبة عالية من التطور الاقتصادي، إلى هذا الاستقرار؟

تتعلق الإشكالية التي يبحثها هنتنغتون ببيان زيف المنطق الاقتصادي التنموي الذي اتبعته الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية، بعيد الحرب العالمية الثانية، هذا المنطق الذي يذهب إلى أن الدعم الاقتصادي الذي تقدمه واشنطن سيقود هذه الدول، بالضرورة، إلى الديمقراطية، وقد عبّر هذا المنطق عن نفسه، مع انتشار المدرسة السوسيولوجية الأميركية حول التحديث.

لقد طرح المفكر العربي، عزمي بشارة، تساؤلاً مهمّاً في كتابه "في الثورة والقابلية للثورة"، من دون أن يستوفي الإجابة عليه بشكل مكتمل، يقول إنه لا بد من رؤية الفارق بين البعد الاجتماعي في الثورة السياسية، واعتبار الثورة السياسية تغييراً للنظام الاقتصادي. ويتابع، بكثير من العمق أنه، في زمن الحداثة، لم تعد تقبل رؤية الفروق الاجتماعية كمعطيات طبيعية، حيث أصبحت إمكانية تخيّل مجتمع واقعي، من دون فقر يحقق مساواة بين الناس، في ما يمكن تسميتها بالحقوق.

وهنا، ليس مهمّاً طبيعة الشعارات التي تطلق بداية الثورة، مطلبية أم سياسية، فهي لا تعبّر عن المكنون الاحتجاجي بشكل واع، لا سيما لحظة انطلاق الاحتجاجات أو الثورة، لأنها عفوية،

كعفوية الحدث، كما أنها تختزن أبعاداً اقتصادية وسياسية واجتماعية، وربما طائفية، بشكل غير واع. المهم المطلب الأخير للمحتجين، فلم تكن الدعوات الاحتجاجية في تونس ومصر، ومن ثم سورية، أصلاً، دعوات للثورة، وهذا ينطبق ربما على مجمل الثورات العالمية، كما حدث في فرنسا، حيث عملت الثورة المضادة على تحويل انتفاضة جماهيرية كافية إلى انتفاضة فعلية، يقول أحد أهم مفكري العصر، إريك هوبسباوم.

في تونس، بدأت الانتفاضة دعماً لسيدي بوزيد، قبل أن تتحول إلى ثورة عارمة. وفي مصر، بدأت مطلبية، بسبب حجم الفقر التاريخي، لكن، سرعان ما كشفت عن نفسها في المستوى السياسي. وفي سورية المثال الأكثر وضوحاً تمثّل بشعار "حرية وبس"، مع ما يحمله من صرخة على الاستبداد والظلم الاقتصادي. وفي اللحظة التي حاول فيها النظام اختزال الحراك الجماهيري في درعا بالبعد الاقتصادي (تصريح بثينة شعبان)، أطلق الأهالي شعارهم "يا بثينة يا شعبان شعب درعا مو جوعان". هنا، نحن أمام شعار غير عفوي، بقدر ما هو شعار على درجة كبيرة من الوعي السياسي الذي يعكس طبيعة المشكلة، وهذا يخالف ما ذهب إليه العزيز سلامة كيلة من أن نخب المعارضة والطبقة الوسطى رفضت الاعتراف بالأسباب الاقتصادية للثورة، خشية أن تلجأ السلطة إلى زيادة الأجور، فتنتهي الثورة، وأكاد أجزم أن هذه الخشية لم تكن موجودة، لا عند النخب المعارضة، ولا عند المتظاهرين بمختلف فئاتهم.

لم يكن انتقال الثائرين من مطلب الحرية إلى مطلب إسقاط النظام بسبب اعتماد النظام الحل الأمني فحسب، بل، في تقديري، إن الجموع المتظاهرة ستصل إلى هذا المطلب، مهما تأخر الأمر، لأنها على قناعة بأن الحرية والحقوق والعدالة والمساواة التي تطرق إليها لا مجال لتحقيقها مع وجود هذا النظام، بدليل أن الخطوات التي قام بها النظام السوري على الصعيدين، السياسي والاقتصادي، لم تلق آذاناً صاغية من المتظاهرين، لقناعتهم أن هذه الخطوات شكلية وغير قادرة على تغيير الطابع العام للبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

وبالعودة إلى عزمي بشارة الذي دحض في كتابه المهم "سورية: درب الآلام نحو الحرية"، المقولة الشائعة إن الثورة السورية هي ثورة أرياف مهمّشة، منبّهاً إلى دلالة بدء الاحتجاجات، أولاً، في المراكز المدينية للأطراف، ثم امتدادها إلى الأرياف المهمشة في ما بعد. فالفقر قد يكون محركاً للاحتجاجات في بعض الحالات، لكنه لا ينتج ثورات ترفع شعارات سياسية. ولهذا، فمن أطّر الثورة وأكسبها طابعاً سياسياً هي عواصم المحافظات، حيث توجد طبقة وسطى ذات وعي سياسي.

وأخيراً، إذا كان الاقتصاد هو الأساس، فكيف يمكن تفسير حياد معظم الطوائف في سورية؟ وكيف يمكن تبرير تماهي الطائفة العلوية مع النظام؟ ولو كان الاقتصاد المحرك، لكانت الطائفة العلوية أول من يثور عليه، كونها أفقر طائفة في سورية. إن تماهي هذه الطائفة مع النظام يعود إلى المستوى السياسي، لا الاقتصادي.