رحيل صانع توم وجيري... لماذا نحبّ القط والفأر؟

26 ابريل 2020
تمتد مسيرة ديتش على ستة عقود بين تشيكوسلوفاكيا وأميركا(Getty)
+ الخط -
رَحل، أخيراً، عن عالمنا، جين ديتش. الاسم غير مألوف نوعاً ما، لكننا نراه عادة في خاتمة مسلسل توم وجيري. فديتش هو الرسام والمُحرك المسؤول عن توم وجيري وبوباي وغيرهما من الرسوم المتحركة التي صنعت طفولتنا. ديتش المبتسم دوماً والحائز جائزة الأوسكار تركنا عن عمر يناهز 95 عاماً. وكان آخر ما نشره على صفحة "الفيسبوك" الخاصة به، كرتوناً عن فيروس كورونا الذي لم يصبه. ونذكر ذلك بسبب الإشاعات حول إصابته بالفيروس، التي نفاها أصدقاؤه المقربون. تمتد مسيرة ديتش على طول ستة عقود بين تشيكوسلوفاكيا والولايات المتحدة، أخرج فيها، إلى جانب عدد من حلقات توم وجيري، مشاريع أخرى كتوم تيرفيك ونودونك. وحاز عام 1961 جائزة الأوسكار عن فيلم التحريك القصير "مونرو"، وقبلها كان قد ترشح عام 1958 لذات الجائزة، ومرتين بعدها عام 1964 عن فيليمي "هذا هو نودنيك" و"كيف تتفادى الصداقة". علّق ديتش قبل رحيله على الجائحة التي يشهدها العالم، وجاء ذلك ضمن منشور على فايسبوك يسخر فيه من طبيعة الأزياء القادمة، وانتشار الأقنعة المبهرجة والملوّنة، وختم بقوله: "لحظة، يمكن أيضاً أن تتحول التراجيديا إلى صناعة!"، وكأنه يسخر من الاستثمار في المعدات الطبيّة، وتحول الأمر إلى سوق تهدد فيه حياة البشر على حساب الربح.

لا يمكن تفادي توم وجيري حين الحديث عن ديتش. الكارتون الأشهر في العالم أسر الكبار والصغار على حدّ سواء، خصوصاً أن صناعة الكوميديا فيه وخلق الإضحاك يعكسان مهارةً وفهماً عميقاً لتقنيات الكوميديا وتاريخها. وهذا ما يرتبط بالتماهي مع الشخصيات. فبناء كل حلقة قائم بداية على فرضيّة أوليّة تقول إن هناك قطاً وفأراً، يعيشان حياتهما كحيوانات دون أي خصائص بشريّة، وهي أول عتبة للتصديق. وتكمن العبقرية وراء توم وجيري في الأدوار التي لا يلبث أن يتبناها كل واحد منهما، مُوظِفين السياق الذي هما فيه (عازفا أوركسترا، طباخون...)، لإظهار خصائصهما البشريّة دون أن يهدد ذلك تصديقنا بشكل كليّ.
تظهر المفارقة في نظام الفخاخ وثنائيّة صيّاد وفريسة التي تراهن على مقومات الدور البشريّ وخصائص توم وجيري كفأر وقط ذي أرواح سبع. هنا نحن أمام بناء تقليدي للنكتة، ثم وعد من نوع ما، بأن القط لا بد أن ينتصر، لكونه نظرياً "الأقوى". لكن لا يلبث أن يخالف هذا التوقع كلّ مرة حين "ينتصر" الفأر جيري. هذه الحلقة الكوميديّة والتعديلات عليها تأسر المشاهد، ولا تبطل قيمتها، لكونها توظف أسلوب تلقينا للكوميديا نفسه، بشكل يقوم على المفارقة وكسر التصديق.
يوظف توم وجيري العداوة التقليديّة بين "الحيوانات"، تلك التي ترتبط أيضاً بمتخيلنا عن كل واحد منها. هذه العداوة أساسها "غريزة البقاء" في الكثير من الأحيان، أي الالتهام وهرميّة السلم الغذائي. وبالرغم من أن توم قط منزل، لكن واحدة من وظائفه هي القضاء على "الفئران"، وهذا أيضاً ما يخالفه المسلسل. توم يخسر دائماً، حيله وحنكته وفخاخه تفشل أمام "مهارة" جيري، الأقل قوّة والأكثر دهاء. في ذات الوقت، سخرية المسلسل من "التقسيمات الطبيعيّة"، تحضر أيضاً ضمن سياقات وأدوار ثقافيّة مختلفة. فالمسلسل زرع في ذاكرتنا أشهر الموسيقى التقليديّة، وسخر من الصور النمطيّة في مختلف البلدان، واحتفى بالقصص العالميّة المتنوعة.
لا يخلو المسلسل من النزعات العنصريّة، فـ"الأم ذات الحذاءين" أو السيدة الملوّنة التي تؤدب توم في عدد من الحلقات القديمة اختفت في الإصدارات الجديدة، وأزيلت من القديمة، بسبب عنصرية تمثيلها لداكني البشرة بصورة أثارت حنق الكثيرين. هناك أيضاً عدد من الحلقات التي يُظهِر فيها "الوجه الأسود" التمثيل العنصري لداكني البشرة، الذي أيضاً أثار جدلاً ومطالبة بحذفه. لكن إن نظرنا إلى التطور لتاريخي للمسلسل ومكوناته الفنيّة، نرى أنه يستفيد من تاريخ الكوميديا نفسه وتقنياتها المتعددة الخالدة عبر الزمن، لأنّها ترتبط بتكويننا الثقافي كبشر وأسلوب إدراكنا للعالم.
المساهمون