ليس غريبًا أن يُعلن حداد لثمانية أيّام في الجزائر، لرحيل الكومندانتي فيدال كاسترو، وليس غريبًا أيضًا أن يشعر هذا الشعب، بانتماءات كاسترو الجزائرية، وقد شاركه الاحتفال بعيد ميلاده التسعين وهو يرتدي قميص المنتخب الجزائري، فهو صديق لهذا الوطن، وصديق لفلسطين، وصديق للقضايا العادلة في كل دول العالم.
للثورة أوطان أيضًا، لا تدخل في حساباتها تضاريس الجغرافية ولا الديانات ولا اللغات، بل هناك خارطة تاريخية تضم دول العالم الثائرة من أجل الحرّية، وما يجمع الجزائر وكوبا هو العلاقات التاريخية التي امتدت إلى عقود ما قبل الاستقلال، فالثورة الجزائرية والكوبية ثورتان شقيقتان أيضًا، إذ تزامنتا في نفس الفترة تقريبًا؛ حيث انطلقت الثورة الكوبية قبل عامٍ واحدٍ من الثورة الجزائرية وانتهت قبلها بثلاث سنوات، ففي وقت كانت البنادق الجزائرية هنا تُسقط الآلة الاستعمارية الفرنسية، كانت البنادق الكوبية تدحر آخر معسكرات الإمبريالية الأميركية المتوحّشة.
الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلة افتتح جسر الزيارات بين الجزائر وكوبا عشية استقلال الجزائر في أكتوبر 1962، وزار كاسترو الجزائر العام 1972 بمناسبة انعقاد مؤتمر دول عدم الانحياز، وتوطّدت علاقته مع الرئيس الجزائري هواري بومدين، وأقام كاسترو في الجزائر لمدّة قاربت الشهر، نزل خلالها إلى أزقّة البلاد وشوراعها، وركب جمال الصحراء والسيارات المكشوفة، ولم تكن هناك بروتوكولات خاصة بزيارة رئاسية ولا خطب عصماء في النداوت الصحافية، وجاءت مراسم زيارته على الطريقة التي اعتادها رفقاء السلاح في ساحات المعارك، كانت قريبة إلى "تسكّع" الأصدقاء منها إلى لقاء الرؤساء. حتى أن كاسترو رافق بومدين إلى المطار لاستقبال ضيوفه من الرؤساء والقيام بزيارات ميدانية شملت بعض المشاريع آنذاك، وكان كاسترو واحدًا من أبناء البيت.
ما يُروى عن علاقة فيدال كاسترو وهواري بومدين، هي قصّص تشبه البطولات التي تحدّث عنها التاريخ القديم، قصّة رجلين جمعتهما قضايا التحرّر في كل دول العالم، ينحدران من دولتين لا تعترفان بـ"إسرائيل"، ناصرَا القضية الفلسطينية في أكثر من مناسبة، وانتقدا في أكثر من مرّة العدوان الصهيوني على الفلسطينيين، فاشتهر بومدين بمقولته "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، واشتهر كاسترو بإنهاء علاقة بلده الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني عند مجيئه للحكم.
من بين تلك القصص التي تُروى في الشارع، هي أن فيدال كاسترو خرج في رحلة بحرية من هافانا متّجهًا إلى الولايات المتّحدة الأميركية رفقة الرئيس الجزائر هواري بومدين، وكان قد أخبره أنهما ذاهبان لمشاهدة بعض السفن الأميركية، في وقت كانت العلاقة بين أميركا وكوبا تعرف حالة من التوتّر آنذاك، خاصّة بعد " أزمة الصواريخ الكوبية". تجاوزت السفينة التي كان على متنها الرئيسان المياه الإقليمية، واقتربا دون سابق إنذار من اختراق الحدود الأميركية، الأمر الذي دفع بالبحرية الأميركية إلى توجيه إنذارات متتالية للسفينة المخترِقة، وهدّدتها بإطلاق النار.
هنا، يقول كاسترو الذي أراد وضع بومدين في حالة اختبار نفسي، "لم ينبس الرئيس الجزائري ببنت شفة، وواصل مراقبته للسفن الأميركية بصمت وهدوء غريبين"، واصلت السفينة الكوبية اختراقها للمياه الأميركية لمدة ربع ساعة أخرى سادتها حالة من الصمت والترّقب إلى أن أمر كاسترو بالعودة، بعدما يئس من إرعاب صديقه، وعندها سأل كاسترو بومدين مازحًا: "هل رأيت السفن الأميركية؟"، فرد عليه بومدين: "لست متأكدًا إن كانت تلك السفن أميركية، فأنا لم أتمكن من رؤية أعلامها بوضوح"، في إشارة منه إلى عدم مبالاته بالتقدّم نحو أسطول الحربية الأميركية التي كانت تُصوّب مدافعها نحوهم.
لقد كان فيدال كاسترو جزائريًا حتى آخر نفس، وكان بومدين أيضًا كوبيًا اشتراكيًا في كل أنفاسه التي كان يسحبها من سيجاره الكوبي، هما رجلان انطفأت سجائرهما اليوم، ولكن دخانهما ما زال يؤلّف في السماء سنفونية فصل ماطر.
كاسترو كان جزائريًا قبل أشهر قليلة من الآن، حين ظهر في عيد ميلاده الأخير، في شهر أوت/ أغسطس الماضي، بقميص المنتخب الجزائري، كتعبير منه على العلاقات القويّة التي تجمع بين كوبا والجزائر، واحتفى روّاد التواصل الاجتماعي بهذه "التحية الثورية" التي وجّهها الكومندانتي إلى "محاربي الصحراء".
وبومدين كان كوبيًا اشتراكيًا أيضًا، حين فتح نقاشًا مع الطلبة الجزائريين أمام وسائل الإعلام، قام أحد الطلاب وسأله "كيف نتحدّث عن الاشتراكية وأنت تدخن سيجارًا كوبيًا، في حين أدخّن أنا وأمثالي سجائر محليّة"، فأجابه بومدين أنه لا يدفع ثمن السيجار من خزينة الدولة، وإنما هو هدية تصله من فيدال كاسترو.