بالحيرة، حيرة الشخصية بين حاضرها والماضي، يبدأ الكاتب السوري الكردي جان دوست (1965) روايته "عشيق المترجم" (دار ورق، 2104). تُفتتح الرواية بفصل "مرآة الحيرة"؛ حيث "يحار الترجمان من أين يبدأ حكايته: من رحلة الأسرة إلى حلب وهو طفل، أم من رحلته إلى روما وهو في السابعة عشرة؟".
يقرر المترجم العجوز، عشيق، أن يبدأها بقرار والده السفر، ثم يرجع بالزمن قليلاً ليسرد بداية قصة حبه لإيستر، ويتصاعد الزمن ليروي تفاصيل رحلته مع بقية الفتية وهم على متن السفينة. ثم يسترجع بعض ذكريات الطفولة في حلب.
تنقسم الرواية إلى كتابين، أنجز منهما الكتاب الأول الذي يبدأ بتدوين الفتى يونس بن إيبش الألباني لسيرة الترجمان العجوز، ولهذا هي أشبه بسيرة تعتمد اختيار الماضي كزمن تخييلي مرتبط بالدلالات التي تريد الرواية إيصالها إلى الزمن الواقعي، فيصبح الماضي حاضر القارئ.
ينسحب صوت المؤلف الحقيقي، دون أن يختفي تماماً، مفسحاً المجال للترجمان، فبعد تأجيل حكاية "مرآة الحيرة"، يبدأ السرد بحكاية إستر، الفتاة اليهودية التي وقع المترجم في غرامها وهو في سن المراهقة. في هذا الفصل يسرد لنا قصة حب مشتعلة بين عاشقين فرّقهما السفر إلى إيطاليا، لتعلم اللغة الإيطالية واللاتينية بأمر من والده، رشدي، ونصيحة من الراهب بولس.
يحاول الابن التملص من السفر بحجج واهية ثم يخبر أمه سارة، بحبه لإستر ورغبته في الزواج منها، لكنها، وهي المسيحية التي لا تفرّق بين المسيحيين واليهود، ترفض طلبه بشدة. لتتوالى بعدها حكايات تنقل لنا صوراً ومشاهد حية من ماض تقع حدوده بين زمنين، أو عصرين، لهما علاقة بما نكابده اليوم.
الراوي صياد مراوغ للحظة المتلقي، إلا أن هذه المراوغة لم تنقذ الرواية من الإسقاطات والدلالات، ففي مشهد السفينة الإيطالية وهي تبتعد عن ميناء قبرص متجهة إلى روما، أو الرحلة من الشرق إلى الغرب، دلالة يمكن أن نرى فيها بداية أفول عصر ونهضة آخر.
وفي مشهد الفتية الأربعة أيضاً (سابا الزجال اللبناني، وجرجس المصري، ثم شمعون النصيبني، والفتى المسلم الوحيد)، وهم على متن السفينة في طريقهم إلى روما لتلقي العلم، ثم حدوث العاصفة، تذكير بأننا جميعاً: مسيحيين ويهوداً ومسلمين، عرباً وأكراداً؛ على سفينة واحدة هي سفينة الوطن. أما مشهد الصياد وهو يعطي الترجمان سمكتين من فيض صيده، فقد يكون مشهداً عادياً، لكنه يكتسب دلالة تعبر عن قيم عربية معروفة.
وفي ذكريات الترجمان عن حلب، يوم كان صبياً في الخامسة، صورة ستعيد إلى الذاكرة مشهد الحرب الدائرة اليوم هناك، لتطفر الدموع وينوء القلب بالحزن على حلب الأمس بجمالها وجلالها، وحلب اليوم. وهذا كله مرتبط بالإطار العام للزمن الذي ترصده الرواية في مقابل زمننا.
وبهذا المعنى، لا تحمل الرواية دعوة إلى عودة الماضي على نحو مطلق، كما تفعل السلفية الدينية، بقدر ما هي دعوة إلى التسامح والتعايش. فالرواية اجتماعية واقعية تقدم لنا شخوصاً لا يشبهون شخصيات الواقع المعيش، ذلك أنها شخصيات مستقاة من التاريخ الاجتماعي لبدايات القرن الثاني عشر الهجري، والنصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، تعرض لنا قيماً اجتماعية وثقافية وإنسانية مفارقة لقيم وثقافة مجتمعات اليوم.
الرواية، من حيث الظاهر، تشكل سيرة ذاتية للترجمان، تتتبّع وترصد حياته وظروف نشأته وانتقاله في الزمان والمكان، لكنها، في الجوهر، سيرة اجتماعية أو سيرة موضوعية متخيلة، تعرض مشاهد متعددة لنمط الحياة بين المِلل والنِّحل المختلفة في لحظة تاريخية فاصلة بين عالمين، تخللها جو من التعايش ثم بدايات زعزعة وتعكير هذا الجو وأسبابه. وهي، على هذا الأساس، تقدم رؤية متعددة لعالم يتبدى هذا التعدد من خلال جدل الشخصيات واستقلالها فيه، إذ تمتعت الشخصيات باستقلالها عن هيمنة الكاتب الذي تركها تعبر عن أفكارها الخاصة وتعرضها بحرية، بما يتسق مع المضامين التي تريد الرواية تبليغها، ومن ذلك، المقارنة بين زمنين، ماضٍ جميل وحاضر وبيل. ولأنها رواية اجتماعية، فقد منحت القارئ إحساساً قوياً بالمكان من خلال وصفه المستفيض.
تعرض الرواية لحركة الترجمة إبان الدولة العثمانية، ومكانة المترجمين وما لاقوه من نعَم ونقَم. وتؤكد على وظيفة الترجمة في كل العصور وهي بناء جسور هدمتها الحروب. و"عشيق المترجم"، بهذا، تقترح أن تكون الترجمة حلقة الوصل والتفاهم، ليس بين الشرق والغرب فقط، بل وبين العرب والقوميات الأخرى، كما هي بين المسلمين والمسلمين أنفسهم. ويمكن أن نلمح أمنية الكاتب من خلال أمنية الترجمان في ترجمة كتاب "الخلاصة في اللاهوت" لتوما الأكويني إلى العربية، وهي أمنية تسهم في تحقيق الحوار عبر الترجمة.
وتعرض الرواية أن مشاهد التعايش والسلام ليست حالة مثالية على الدوام، فهي تعرض لبدايات الصدام في الموصل، حين يحكي شمعون النصيبيني، فيقول: "كان أبي، وكنت معه، نصادف في رحلاتنا يهوداً ومسلمين ويزيديين وصابئة، عرباً وأكراداً وتركاً، نصطدم بلغات وأديان كثيرة تتصادم هي أيضاً في بعض الأحيان".
ومما تعرضه، صورة سلبية لم تتغير، وهي الطبقية، إذ نجد أن الأم تعترض على زواجه من إستر لأنها يهودية، بينما لا يلقي أبوه لمسألة الدين أهمية، لكنه يعترض على زواجه منها من منظور طبقي، لكونها مجهولة النسب. يقول لابنه في هذا السياق: "الناس مقامات يا ولدي، وأبوك تاجر له سمعة طيبة". وبالرغم من أنه ليس للحب شريعة، إلا أن مصيره الفشل عند معتنقي الشرائع. الفشل كان قدر الحب الذي جمع الشركسي المسلم باليهودية إستر، والكردي بوزان بالعربية البدوية مياسة.
يذكر أن دوست ولد في مدينة عين العرب شمال حلب، ثم انتقل ليعيش في ألمانيا التي تفرّغ فيها للكتابة. "عشيق المترجم" روايته الأولى التي يكتبها بالعربية، وسبق للكاتب أن أصدر أربع روايات باللغة الكردية، ترجمت منها رواية "ميرنامه" إلى العربية، وصدرت عن مشروع "كلمة للترجمة" (2011)، إضافة إلى عدة دواوين شعرية.