ربما أكون قد نجوت من كورونا!
وقع قلبي في رجلي حين قال الطبيب هذه العبارة الغامضة، لأسباب تتعلق بالتاريخ الطبي للعائلة، وفكرت مباشرة في المرض الخبيث أو الـ "Big C" كما يسميه الخواجات، وحين قال شارحاً: "اتضح إن عندك أجسام مضادة لفيروس كوفيد 19 في الدم، واضح إن الفيروس جالك وخفّيت منه من غير ما تظهر عليك الأعراض"، ولأن طبيبي مصري صميم، ويعرف أنني كنت على وشك أن أطيح بالموبايل جانباً لأسجد شكراً لله، ثم أجري في الشقة جرية الطيارة وأنا أغني "يا اصحابي يا أهلي يا جيراني.. أنا عايز آخدكم في أحضاني"، رفع صوته قائلاً:"على فكرة هو خبر كويس بس لازم تخلي بالك زي ما كنت لإننا مش متأكدين لغاية دلوقتي هل الفيروس ممكن يغير تركيبته ويصيب اللي خف منه تاني ولا لأ؟"، ليفرمل فرحتي العارمة بالخلاص الأبدي من فيروس ليس له "مالكة" حتى الآن، ويقضي على أملي بالتخلص من الكمامة التي جعلت حبسة البيت أحبّ إلي من الخروج منه.
كنت قد أجّلت ذهابي إلى الطبيب طيلة الأسابيع الماضية للعلاج من خُرّاج طال بقاؤه، ومن التهاب في المسالك البولية، خوفاً من أن ألتقط عدوى كورونا في عيادة الطبيب، ليتضح أن السعال الحاد الذي أصبت به في منتصف شهر مارس كان على ما يبدو من أعراض كورونا، لكنني لم أشك في ذلك لأنه لم يصاحبه ارتفاع في درجة الحرارة أو ضيق في التنفس أو هَمَدان في الجسم، ولم يكن سعالاً جافاً، مما يعني أن كل الفتاوى التي استمعت إليها، والتي تعتبر البلغم دليلاً على البراءة من الفيروس كانت خاطئة، أو ربما كانت صحيحة، وربما أكون قد أصبت بالفيروس في فترة لاحقة لذلك أو سابقة عليه. لا أحد يدري، ولا أحد يستطيع الجزم بشيئ سوى أن الحذر مطلوب طيلة الوقت حتى تنجلي هذه الغمة تماماً.
المضحك أن كل من أعرفهم كانوا يضربون بي المثل في الحذر والتزام تعليمات الوقاية من الفيروس والتتميم عليها طيلة الوقت في البيت، وعبر الأثير مع الأهل والأصدقاء والحبايب، ليتضح أن كل نصائحي الطبية وإجراءاتي الوقائية كانت فشنك. كنت ثاني من يصاب بالفيروس في دائرتي القريبة، سبقني إلى ذلك واحد من أعز أصدقائي، عانى من المرض بشدة ولأكثر من أسبوعين ثم شفاه الله بعد أن اترعبنا عليه، ولأنه يحقد علي لأنني لم أمر بنفس معاناته، صارحني بأنه يفكر في رفع دعوى قضائية يتهمني فيها أنني نقلت له العدوى، وأنا لم أصارحه بأن موقفه في القضية ضعيف، لأنه يعمل في المجال الطبي، وسيكون من السهل أن أثبت أنه الذي نقل لي العدوى، ولذلك قررت أن أنتظر خسارته للقضية، لأرفع عليه بالمرة دعوى تعويض عن تشويه السمعة، توفيراً لأتعاب المحامين الفلكية، وسأتبرع بما أحصل عليه من تعويض لمنظمة الصحة العالمية مساندة لها في أزمتها المالية التي يتوقع أن تحدث بسبب سحب ترامب للتمويل الأمريكي للمنظمة، شريطة أن تصدر بياناً قاطعاً يطمئن المتعافين من الفيروس إلى أنهم لن يصيبوا به ثانية، فأنا أحتاج في هذه الفترة إلى بعض اليقين، حتى ولو كان كاذباً.
حين قال أحد أقاربي بضحكة عريضة إنني يمكن أن أرسل إليه بالبريد المستعجل "بلازمتي" لأنه يمكن أن يبيعها بمبلغ يتجاوز العشرين ألف جنيه، لم أفهم في البداية موطن الإفيه، فلم أكن قد سمعت عن عمليات بيع البلازما التي انتشرت في مصر خلال الأيام الماضية، والتي وصلت إلى ذروة هزلمأساوية، حين قال البعض إن هناك ولاد حرام قاموا بتزوير شهادات تثبت تعافيهم من المرض، ليبيعوا البلازما المضروبة لمرضى حالمين بالشفاء، ثم اتضح أن مصر لا تعرف حداً لذراها الهزلمأساوية، حين نشرت إحدى الصحف الحكومية أن عدد الذين عرضوا التبرع بالبلازما الخاصة بهم بوصفهم متعافين من الفيروس وصل إلى 300 ألف شخص، في الوقت الذي أعلنت فيه وزارة الصحة أن عدد الذين أصابهم الفيروس في مصر لم يتجاوز الخمسة وثلاثين ألف مواطن، وهو ما اعتبره البعض تأكيداً على عدم ثقتهم في الأرقام التي تعلنها وزارة الصحة، والتي تبدو أقل مما يصادفونه من حالات وفاة وإصابة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن، بغض النظر عن العائد المادي الذي يمكن أن أحصل عليه من بيع البلازما لأصدقائي الذين حجزوا دورهم للاستفادة من "بلازمتي"، هل هناك أصلاً فاعلية طبية مؤكدة لبلازما المتعافين من الفيروس؟ لا أحد يدري على وجه اليقين، مثلما لا أدري حتى الآن كيف أصبت بالفيروس برغم كل ما اتخذته من احتياطات جنونية؟ هل كان ذلك حين زرت عيادة الطبيب قبل ثلاثة أشهر؟ أم كان في مركز الأشعة بعدها بيومين؟ أم في مشاوير الصيدلية المكتظة بالساعلين الكاححين؟ أم في السوبر ماركت؟ أم بسبب واحد من طلبات الديليفري؟ وكيف أصيب به قبلي صديقنا الذي كنا نعده حجة في الحذر ومرجعاً في الوقاية مع الفيروس؟ وإذا كانت العدوى قد انتقلت إليّ من صديقي أو انتقلت مني إليه حين سهرنا سوياً في منتصف مارس، فكيف لم يصب بها بفضل الله من جلسوا معنا في تلك الليلة التي سبقت قرارات العزل الصارمة في نيويورك؟ طيب، هل نجوت من مضاعفات الفيروس الخطيرة على مصاب بمرض السكر مثلي، لأنني كنت قد سيطرت على معدل السكر في الدم في الشهور الماضية؟ وكيف نجحت بفضل الله في عدم نقله إلى زوجتي وابنتي؟ وهل ساعدنا على العبور من هذه المحنة التزامنا بكل ما يقوي المناعة من غذاء وفيتامينات؟ أم أن المسألة كلها قسمة ونصيب؟
قال الطبيب إن التورم الذي عانيت منه مؤخراً، ليس خبيثاً بحمد الله، لكنه ربما يكون من تداعيات الفيروس الذي يستنفر مناعة الجسم للوقوف ضده، فأحدث لدى البعض جلطات خطيرة نتج عن بعضها بتر في القدمين والعياذ بالله، وأحدث لدى آخرين التهابات، بعضها خفيف يمكن القضاء عليه بالمضادات الحيوية، وبعضها أخطر من ذلك، وحين تسأل الأطباء والمختصين عن الأسباب والملابسات المرتبطة بكل ذلك، تسمع دائماً عبارة "ليس هناك إجابة مؤكدة حتى الآن"، التي تجعلنا نلعن خاش بيانات منظمة الصحة العالمية، ثم نكتشف عند مناقشة أطبائنا أن المنظمة معذورة، لأن الوقت لا زال مبكراً للوصول إلى إجابات قاطعة على كل الأسئلة التي يطرحها هذا الفيروس المربك، ولذلك لم يكن طبيبي نكدياً أو كئيباً حين طلب مني أن أواصل التزام الحذر كما كنت، وأن أفرمل فرحتي بامتلاك أجسام مضادة تباع بالشيئ الفلاني، لأنك لا تدري على وجه اليقين كيف سيطور هذا الفيروس أداءه في نسخه المقبلة، وعندها ستضيع تحويشة عمري من الأجسام المضادة، وستصبح بلازمتي بلا لازمة، ولن ينتفع بها "لا قريب ولا غريب ولا حبيب".
ما أنا متأكد منه حتى الآن أنني يجب أن أشكر الله على فضله وكرمه ولطفه، وأسأله وأبتهل إليه أن يتم شفاء الجميع على خير، ويطرح البركة والعافية في الأطباء والممرضين والعاملين في المجال الطبي في كل بلاد الدنيا، ويوفق العلماء والباحثين للعثور على لقاح يلمّ هذا الفيروس الطايح في الخلق، وأن يجعلها آخر الأحزان والجوائح، على الأقل في حياتي وحياة أولادي وأحفادي وأولادهم، أما الذين سيأتون بعد ذلك، فستكون لديهم للأسف مشاكل أخطر من كورونا.