رئيس بجلد حمار (1/2)

30 أكتوبر 2019
+ الخط -
كانت تلك أول وآخر مرة أرى فيها المشير محمد عبد الغني الجمسي وزير الدفاع السابق وأحد أبطال حرب أكتوبر، كنا وقتها في ربيع عام 1998، وكان قد انتهى لتوه من تسجيل حوار أجريناه معه ضمن سلسلة حلقات وثائقية عن ذكرى مرور خمسين عاماً على نكبة العرب وفلسطين، كنت أقوم بإعدادها خلال عملي في قناة راديو وتلفزيون العرب ART. حين اتفق معه الزميل حمدي رزق على إجراء الحوار، رجاه المشير الجمسي ألا يأتي فريق التصوير إلى بيته، لأنه تعرض لتجربة مريرة من قبل مع فريق عمل حضر للتصوير معه، واتفقنا معه على أن يحضر إلى مقر في شارع جامعة الدول العربية، وصورنا الحوار معه في مكتب الأستاذ علي بدرخان المخرج الكبير والمشرف على الإخراج في القناة، وكنا جميعاً في غاية السعادة بتشريف المشير الجمسي لنا.

لم يكن الحوار التلفزيوني مع المشير الجمسي مهمة سهلة، لأنه رجل متأمل ولا يحب الاستطراد، ويفضل الإجابات المقتضبة، ولذلك يتوجب على من يحاوره أن يمطره بالأسئلة التفصيلية لكي يحصل منه على كافة جوانب الصورة، خاصة أنه يحب أن يحيل دائماً إلى مذكراته التي سجل فيها شهادته على التاريخ بالكامل، ولولا أن الحوار كان مسجلاً ويتم معه من خلف الكاميرا، لما خرجنا منه بما نتمناه، كان ملفتاً لنا التواضع الآسر للرجل، وعدم ميله إلى المبالغة في تصوير دوره، وحرصه على الانضباط في الحديث عن كل القيادات التي شاركت في الحرب دون تهوين من دور أحد ولا تهويل من دور حسني مبارك قائد سلاح الطيران، كما كان يفعل الكثيرون وقتها.

حين انتهى الحوار، انتهزت فرصة جلوسه في انتظار سائق سيارته الذي ذهب لقضاء إحدى حاجيات الأسرة وتأخر عليه، استفزني إيثاره للصمت واكتفاؤه بهز رأسه محيياً لكل من يحاول اقتحام صمته بكلام ودود، وهو ما جعل بعضهم يفهمون ذلك رغبة منه في الاختلاء بنفسه، فغادروها بدلاً من الجلوس معه والاستماع إليه كما كانوا يأملون، لكنني فضلت البقاء أملاً في تغير مزاجه، وقلت لنفسي: هذا صمت صعب يحتاج إلى مدخل جرئ لكسره. فاقتربت منه وقلت له مبتسماً وأنا أسوق الهبل على الشيطنة: "معلهش يا افندم أنا عندي سؤال مهم وتافه في الوقت نفسه"، نظر إلي مستغرباً من دخولي المفاجئ، وقال مبتسماً بعد لحظة صمت: "هاضطر أسمعه عشان أفهم إزاي مهم وتافه في نفس الوقت".


فرحت لأن الصنارة غمزت، وبادرته بالسؤال: "اللي أنا فاهمه إن فرق السن مش كبير بين حضرتك وبين الرئيس مبارك"، ارتسمت على وجهه تقطيبة، ثم قال لكي يستعجل دخولي في الموضوع: "يعني حوالي سبع سنوات، لكن فين السؤال؟"، فقلت وأنا حريص على توسيع عرض الضحكة لكي أتفادى أي رد فعل غاضب: "أصل أنا شفت الريس السنة دي في لقاءه مع المثقفين في معرض الكتاب وشفت قبلها المشير أبو غزالة وهو أصغر منه بسنتين تقريبا، وباشوف المشير حسين طنطاوي في التلفزيون، والنهارده تشرفت وشفت حضرتك، فمستغرب إزاي مش باين على الريس السن خالص"، وقبل أن أكمل انفجر المشير الجمسي بالضحك، فكفاني مؤونة الاستطراد في سؤالي المشاكس بشكل يثير ضيقه أو يعتبره تطاولاً مني.

حين رأيت ضحكته تنير وجهه، ندمت للحظات أنني لم أبادر بسؤاله قبل عقد الحوار، لكي يساهم السؤال في فك جمود الجزء الأول من الحوار، لكنني لم أكن أضمن أن سؤالي وقتها كان سيفضي إلى نفس النتيجة التي جعلته يضحك من قلبه قبل أن يفكر قليلا ويقول ضاحكاً: "يا ابني حسني مبارك طيار، عايز تجيبنا إحنا زي الطيارين"، ثم يشرح لي أن الطيارين لهم في الجيش "ميزة خاصة"، هكذا سمعتها في الأول، قبل أن يكررها ويقول لي إنه يقصد "ميز خاص" أي مطبخ فاخر مخصوص يمتاز بأنه مفتوح 24 ساعة، بحيث يتمكنون من دخوله في أي وقت في اليوم، بعد عودتهم من طلعاتهم التدريبية أو القتالية، أما باقي الأسلحة في الجيش فلها مواعيد محددة في الأكل، ونوعية أكلها وجودته لا يقارن على الإطلاق بأكل الطيارين، ثم قال لي ضاحكاً: "إنت عارف حسني مبارك بيفطر إيه كل يوم؟"، وقبل أن أتمالك مفاجأتي من سؤاله أجابني قائلاً: "بياكل اتنين كيلو جمبري مسلوق على الريق"، قبل أن يقول بضحكة رائقة: "أنا لو بافطر كده كل يوم كانت صحتي هتبقى أحسن بكتير".

كنت أطمع في أن يمتد خيط الحوار بيني وبين المشير الجمسي للحديث عن علاقته بحسني مبارك وموقفه منه، لكن سائقه سامحه الله لم يتأخر أكثر، فتسبب مجيئه في قطع حبل الحكايات المنتظرة، وحين حاولت أخذ وعد بوصل ما انقطع في حوار إضافي أزور المشير الجمسي من أجله في منزله، اعتذر لي بلطف قائلاً إنه لم يعد لديه جديد يقوله، وأنه قال كل ما لديه في مذكراته، لكنه تفهم رغبة حمدي رزق في أن يشارك بشهادة مرئية في مناسبة مهمة كهذه، ثم سلم على جميع الموجودين في المكتب بمنتهى اللطف، وغادر ليتركنا فطسانين من الضحك على حكاية الجمبري المسلوق الذي يفطره مبارك كل يوم، والذي فسر لنا قدرته الفسفورية على فشخ ملايين المصريين بقراراته وسياساته، وفسر أيضاً الارتفاع المبالغ فيه لأسعار الجمبري، لكنه لم يفسر لنا ارتفاع أسعار الكابوريا التي لم يتسن لنا أن نعرف موقف حسني مبارك منها.

مع مرور الوقت وبقاء حسني مبارك على رأس الحكم دون أن يبدو على صحته أدنى تأثر، انضمت الحكاية التي سمعتها من الجمسي إلى سيل الحكايات التي تحاول تفسير قهر مبارك للزمن وتحديه لأعراض الشيخوخة، في البدء كان الاسكواش هو التفسير الأبرز لذلك، فالرجل حريص على ممارسة تلك الرياضة كل يوم، والشهادات التي يرويها من شاركوه في اللعب وكنا نسمعها من بعضهم مباشرة أو عبر رواة، كانت تجمع على لياقته الشديدة وإتعابه لمن يلعب معه، لكننا كنا نعتبر ذلك مبالغة منهم لتبرير تعمدهم الخسارة أمامه، كما يفعل كل ندماء الملوك وأفراد حاشيتهم.

لكن الاسكواش لم يكن التفسير الوحيد لصحة مبارك المستفزة، فقد انتشرت تفسيرات شعبية عديدة أذكر منها تلك الرواية التي انتشرت بشدة في مطلع الألفية الثالثة، والتي زعمت أن حسني مبارك سأل خلال إحدى زياراته لمدينة الإنتاج الإعلامي النجم حسين فهمي عن سر حفاظه على شبابه الدائم ولياقته، فقال له ضاحكاً إنه يسافر إلى الخارج ليأخذ حقنة خلايا جذعية، وأن هذه الخلايا يتم استخراجها من المشيمة التي تتخلف بعد الولادة، وأن حسني مبارك أصدر تعليماته إلى القوات المسلحة باستحضار هذه الحقن على الفور، ليقوم بحقنها في المركز الطبي العالمي الذي يقع في طريق الإسماعيلية والذي أنشئ خصيصا لعلاجه هو وكبار قادة الجيش، وحين التقيت بعدها بسنوات بالفنان حسين فهمي وسألته عن تلك الحكاية، انفجر من الضحك، وقال لي إن المسألة ليس فيها حقن خلايا جذعية ولا يحزنون، بل وراءها الجينات التي كانت حسنة الحظ معه ومع شقيقه مصطفى فهمي، ساخراً من خيال من حكى القصة، لأنه يفترض أن حسني مبارك لا تأتيه أولاً بأول أحدث الوسائل الطبية التي تساعد على زيادة اللياقة ومكافحة التقدم في العمر.

لم يكن التفسير الجيني للصحة والمرض منتشراً بشدة في تلك الأيام، وحين بدأ انتشاره بين الناس، شاع القول إن مبارك استمد صحته وبأسه من والديه وجيناتهما، وأنه سيأخذ عن والديه طول العمر "ويطلّع جين أبونا"، لأن والده كما قال البعض تجاوز المائة سنة، في حين قال آخرون إن ذلك غير صحيح، مؤكدين أن والد حسني مبارك لم يكن معمِّراً، وإنما وافته المنية بعد نهاية خدمته الوظيفية كحاجب محكمة وإحالته إلى المعاش في عام 1960، لكن والدته هي التي عُمّرت وتجاوزت المائة، وهو ما اتضح خطؤه بعد ذلك، لأن والدة مبارك توفيت عام 1978 خلال عمله كنائب للرئيس السادات. كان معروفاً بين الناس وقتها أن مبارك لا يحب الحديث عن والديه علناً، خصوصاً بعد أن شخط في مفيد فوزي خلال أحد لقاءاته التلفزيونية معه، لأنه سأله متباسطاً عن علاقته بوالده، ونتج عن ذلك الحادث التافه كم مهول من التشنيعات والإشاعات، كان أكثرها إثارة للضحك ما قيل عن منع التلفزيون لإذاعة أغنية (أمّه نعيمة نعمين) للمطربة ليلى نظمي، لأن والدة مبارك اسمها نعيمة، وكلها تشنيعات لم تكن ستظهر لو كان هناك تعامل طبيعي مع أي معلومات تخص رئيس الجمهورية، كما يحدث في الدول الطبيعية.

فجأة، تغير كل شيئ فيما يخص التعامل مع صحة حسني مبارك، حين سقط على الهواء مباشرة في خطاب كان يلقيه في نوفمبر 2003 بمجلس الشعب، كانت آثار الإجهاد بادية عليه حين بدأ إلقاء خطابه، لكن الجميع تعامل مع الأمر بوصفه دور برد، خصوصاً حين كثر إخراجه لمنديل من جيبه والقيام بالنفّ فيه، ولم يكن يتوقع أحد أن يقع حسني مبارك من طوله، لينقطع إرسال التلفزيون، وتروج بعد ذلك الروايات التي نقلها الصحفيون الذين حضروا الجلسة عن قيام عمر سليمان رئيس المخابرات بالقفز من مقعده ليأمر بإغلاق أبواب القاعة الكبرى في المجلس منعاً لدخول أو خروج أحد من القاعة، في الوقت الذي تم فيه إسعاف حسني مبارك على الفور، ليعود الإرسال التلفزيوني بعد فترة قصيرة من داخل القاعة، ويدخل حسني مبارك منتصب القامة يمشي وكأن شيئاً لم يكن، ويقوم بتحية نواب مجلسي الشعب والشورى، الذين التهبت أكفهم من التصفيق، بعد أن التهبت مؤخراتهم من الجلوس مرزوعين على كراسيهم دون أن يعرفوا ما يدور خارج القاعة، وظهر بعدها على الشاشات وزير الصحة الدكتور محمد عوض تاج الدين الذي قام بإسعاف الرئيس، ليقول لمذيعة التلفزيون إن أي شخص عادي يصاب بدور البرد الذي أصيب به الرئيس، يجب أن يرقد عشرة أيام في السرير لكي يتجاوزه، أما الرئيس مبارك فإنه منذ أصيب بدور البرد قبل خمسة أيام لم يتوقف عن العمل يوماً واحداً، وكان ينقصه أن يقول إن الرئيس مبارك لم يصب بدور برد، بل دور البرد هو الذي تشرف بالحلول في جسد الرئيس.

.....

نكمل غداً بإذن الله
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.