ويعترف قائد العبور الفريق سعد الدين الشاذلي في مذكراته بأن "الجزائري كان يعيش نشوة الانتصار على المستعمر، لأجل ذلك كان الأكثر حماسةً بين الجيوش العربية".
قبيل اندلاع حرب أكتوبر/تشرين الأول التقى الرئيس الجزائري، هواري بومدين برئيس الاتحاد السوفياتي السابق، ليونيد بريجينف، الذي كان غاضباً على الرئيس المصري السابق أنور السادات بعد طرده للخبراء الروس من مصر وقرار موسكو بعدم مد القاهرة بالسلاح.
لكن بومدين نجح في اقناع بريجينف بتزويد مصر بشحنات السلاح، إلا أن بريجينف اشترط أن تدفع القاهرة تكلفة السلاح قبل تسلمه، ولم يتردد بومدين في التوقيع على صك بمبلغ 200 مليون دولار قيمة الأسلحة الموجهة إلى أم الدنيا.
وحين اندلعت الحرب جمع بومدين عدداً من القوات العسكرية التي تقرر ارسالها إلى الجبهة في سيناء، وخطب فيهم قائلاً "إنكم تذهبون إلى أشرف معركة، معركة الدفاع عن الأرض والعرض والحق وعن مصر وفلسطين، هذه المعركة من أشرف المعارك، لن نبكي على من يموت فيها، لكننا سنزفه شهيداً وتزغرد عليه الأمهات".
في هذا الخطاب الحماسي، كان عناصر الجيش الذين يستعدون للمغادرة على أهبة الاستعداد النفسي والعسكري، وكان بوبرمة محمد العيد من ولاية ورقلة جنوبي الجزائر واحداً ممن كان لهم شرف القتال في حرب أكتوبر/تشرين الأول.
ويقول العيد "سنة 1973 كنت جندياً في العاصمة في إطار الخدمة الوطنية، وخلال نهاية أحد الأسابيع من شهر رمضان كنت أشاهد الأخبار فسمعت النداء الموجه للجيش، تجهزنا ورحلنا إلى تلاغمة من دون أن نعرف وجهتنا النهائية، وفي مدينة عين البيضاء علمنا من حديث الناس أننا متجهون إلى مصر للمشاركة في الحرب".
ويضيف العيد "دخلنا تونس واستقبلنا الحبيب بورقيبة في قابس، أذكر أنني كنت مكلفاً بتوزيع الوجبات على الجيش، أبدأ من الرابعة صباحاً ولا أنهي عملي إلا مع الغروب، وفي ليبيا كتبنا رسائل إلى أهلنا وذوينا، واستغرقنا أسبوعين للوصول إلى مصر وكان ذلك يوم عيد الفطر بالضبط".
ويتابع "أقمنا في المطار الدولي في القاهرة، ومنه نقلنا المعدات الحربية إلى ميادين القتال في سيناء، كنا نجمع العتاد الذي تعرض للقصف والغنائم لننقله إلى المعرض الدولي في القاهرة حيث يُجمع هناك، وقد شاركت شخصياً في نقل الجسر المحمول الذي عبر به المصريون والعرب قناة السويس يوم العبور التاريخي، وكنا معرضين للقصف الإسرائيلي باستمرار خلال أداء مهامنا".
ويؤكد العيد أنه كاد يقع أسيراً في يد القوات الإسرائيلية، ويسترجع ذلك اليوم العصيب قائلاً: "ذات مرة نقلنا دبابة من سيناء إلى الميدان، كنت عائداً عبر طريق صحراوية فسلكت عن طريق الخطأ طريقاً تقود مباشرة إلى العدو، وصار بيني وبينه حوالي كيلومترين فقط وكنت أشاهد أشخاصاً يتحركون من دون أن أدري من هم، غير أنني أبصرت عبر المرآة ضوءاً خلفي يقترب، توقفت وكان هذا دركياً جزائرياً لحق بي ونبهني إلى أنني في الوجهة الخطأ، وأكد لي أنه كاد أن يطلق علي النار خوفاً من أن أسلم نفسي لليهود، وعدت والحمد لله بسلام بعدما أشرفت على الهلاك".
ويضيف "مكثنا 8 أشهر هناك، لا تزال ماثلة أمام عيني إلى جانب الرصاصات التي لا يزال أثرها في ساقي اليسرى شاهداً إلى يوم الدين".
لكن عدداً من القوات الجزائرية كانوا قد نقلوا إلى الجبهة قبل اندلاع الحرب بأربع سنوات للمشاركة في حرب الاستنزاف، كان بينهم الرقيب في قوات الصاعقة بن مير قويدر، الذي يعود بالذاكرة إلى عام 1969 ويقول: "حين وصلتنا الأوامر رحلنا إلى وهران غربي الجزائر ثم إلى القاهرة جواً يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1969، وهناك انتظرنا غروب الشمس لننقل براً إلى البحيرة المرة قرب السويس، كنا لواءً كاملاً وزعت علينا المهام، وكان اللواء الجزائري مكلفاً بحراسة الرادارات والتدخل، وكان معنا مقاتلون فلسطينيون وسودانيون".
ويستذكر حادثة قصف "طائرات العدو الإسرائيلي لمجموعة تتكون من 11 جندياً جزائرياً ولم يتمكنوا من العودة، حينها أمر النقيب الجزائري محمود بإخراج كل الأسلحة وبدء قصف العدو، لتوفير تغطية تسمح للمجموعة الجزائرية بالعودة سالمة وعادوا فعلاً".
لم يكن الطريق إلى الجبهة المصرية سهلاً، فقد قطعت القوات الجزائرية مسافة طويلة من الجزائر مروراً بالأراضي الليبية.
يروي الضابط بن لحية تلك الرحلة المشرفة ويقول "كنت عريفاً أول في الجيش بالعصامة، تم تجميعنا ونقلنا إلى منطقة التلاغمة شرقي الجزائر، وهناك ألقى الرئيس بومدين خطابه في القوات المتوجهة إلى الجبهة المصرية، وخرجنا صبيحة يوم العيد إلى ليبيا، وكانت التغطية الجوية ترافقنا عبر الطريق، وفي ليبيا قمنا بدهن أضواء العربات بالأزرق كي نتجنب قصف القوات الإسرائيلية التي كانت تراقب أية تحركات عسكرية في محيط مصر، ودامت الرحلة 12 يوماً، وحين وصلنا أخذنا مواقعنا وشرعنا في مهامنا".
ويضيف "أذكر أن السادات زارنا في منطقة قفرة بين السويس وسيناء، وأقمنا له استعراضاً عسكرياً وهناك طلب من بومدين إبقاء القوات الجزائرية عامين احتياطاً لكل طارئ، وكان الأمر كذلك".
ويوضح أنه "كنا نتلقى بين الحين والآخر هدايا ترسلها إلينا السيدة أم كلثوم تحمل اسم (هدية أم كلثوم للقوات العربية المسلحة) تحتوي على العطر والصابون والكعك وغيرها، قبل أن تتقرر عودتنا إلى الجزائر بحراً سنة 1975، وعدنا حاملين معنا ذكريات لا تنسى أبداً وقمنا بواجبنا، وأتمنى أن يدرس التاريخ وأن تُذكر هذه التضحيات للأجيال".
أما الطيار محمد فريوة الذي تلقى تأهيله في الاتحاد السوفييتي ما بين 1967 و1970، فقد ترك عروسه بعد شهرين من زواجه في يوليو/تموز 1973 ، حيث استدعي إلى الخدمة على وجه السرعة، وما هي أسابيع قليلة حتى كانت الأوامر تصدر بأن يتوجه بطائرته إلى طرابلس فبنغازي ثم إلى القاهرة ضمن سرب يتكون من 16 طائرة من نوع "سوخوي 07".
ويقول فريوة "في اليوم الرابع من الحرب، فور وصولنا تم دهن طائراتنا بلون الطائرات المصرية وتلقينا شروحات عن الوضع العسكري الميداني، وكانت مهمتنا التوغل في خط برليف لقصف معدات عسكرية وقواعد صاروخية للعدو كانت تنطلق منها الصواريخ ضدنا".
ويتابع "كنت أكتب وصيتي إلى الأهل قبل كل طلعة ولم يكن الأمر بسيطاً قط، كان عمري 22 عاماً وخلفي زوجة عشت معها أقل من شهرين، غير أن المعنويات كانت عالية لأننا تبنينا القضية وحملناها في قلوبنا وقررنا فداءها بأرواحنا". وبعد سنة من التواجد على الجبهة في سيناء حصل الطيار فريوة على عطلة لمدة 21 يوماً فقط، لكنه عاد بعدها مباشرة إلى مواقعه في سيناء.
يتذكر فريوة يوم زارهم قائد القوات الجوية حينها حسني مبارك زيارة ودية و"سألنا إن كانت لنا حاجة يوفرها لنا"، ويقول "أضحكته كثيراً حين قلت له مازحاً أهلكتونا بالفول والطعمية، فأمر بتغيير الوجبة المقدمة لنا".
في هذه الحرب امتزجت دماء الجزائريين مع دماء كل الأحرار العرب دفاعاً عن الشرف والقضية، وتركت الحرب ذكريات كثيرة لدى العسكريين الجزائريين حين كانت الجزائر بقيادة الرئيس هواري بومدين، وكان يتولى الجيش المصري سعد الدين الشاذلي، الذي احتضنته الجزائر لمدة 14 سنة بعدما لاحقه السادات.