ذكرى ميلاد: فرانز فانون.. ضد العقل الاستعماري إلى اليوم

20 يوليو 2020
فرانز فانون
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، 20 تموز/ يوليو، ذكرى ميلاد المفكر المارتينيكي فرانز فانون (1921-1962).


لعلّها لحظةٌ مناسبةٌ لاستعادة فرانز فانون. فما حدث في الولايات المتحدة بعد مقتل جورج فلويد قد وضع العنصرية مجدّداً تحت الضوء العنصرية التي تفضحها جرائمها من حين إلى آخر، لكن لا تفضحها أفعالها الأشنع ضدّ شعوب وثقافات بأكملها. العنصرية جريمة مستمرّة لا تعرّيها الأحداث إلا بشكل عابر، وَحده الفكر يضيء هوّة الشرّ الهائلة تلك، هناك حيث أشار فانون منذ نصف قرن، وكان يأمل أن تكون للفكر القدرة على إسقاط هذا الوحش الثقافي، لكن هيهات. مرّت العقود، واستقلّت البلدان، واستعيدت الحقوق المدنية، ولكن العنصرية لا تزال تطلّ برأسها.

في تلك المنطقة اشتغل صاحب كتاب "معذّبو الأرض"، حاول أن يكشف لعبة التراتبية الوهمية التي اصطنعها الغزاة البيض كي يُمهّدوا الطريق لنهب الشعوب الأخرى. اشتغل فانون في أكثر من اتجاه، انطلق من المعرفة العلمية الغربية ذاتها، فوضّح كيف اخترع العلماءُ "الزنجيَّ" على مزاج "العقل الاستعماري" فجعلوه أقرب إلى حيوان أو إنسان بدائي مبرّرين بذلك استعباده وقتله. كما أسقط "الأقنعة البيضاء" من على وجوه أصحاب "البشرة السوداء" فهؤلاء قد حوّلتهم الآلة الاستعمارية من حيث لا يعلمون إلى أدوات ضدّ أنفسهم. 

كان يُفترض أن يكون فانون أحد هؤلاء، "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"، فقد احتضنه النظام الاستعماري الفرنسي وأمدّه بكل فرص النجاح المهني ليصبح طبيباً نفسياً. إلا أن المارتينيكي سيقف على تناقضات جمة، فقد دعي خلال الحرب العالمية الثانية للخدمة العسكرية ضمن الجيش الفرنسي الذي كان يرفع شعار محاربة الألمان لأنهم عنصريّون. فتح هذا التناقض مسلكاً في ذهن الطبيب الشاب سيسير فيه حين التقى بدوائر مستعمرات أخرى، في الجزائر وتونس، وكأنه كان يجمع قرائن جريمة الاستعمار عبر الجروح العميقة التي تتركها في نفوس أصحاب الأرض.

كلنا نرى الجرائم في شكل مجازر ومذابح. يقول فانون: تعالوا أريكم ما هو أفظع؛ تأتي ثقافة غازية بأطماعها مدركة أن ثقافة محلية ستقاومها، لذلك عليها أن تكسر كل أنظمة القيم وتحتكر معيارية الجيّد والسيء. تضع الثقافةُ الغازية الثقافة المحلية في درجة ثانية، وتجمّدها محوّلة إياها إلى مومياء، وهنا جوهر الجريمة بالنسبة لفانون، لأن أبناءُ ثقافةٍ-مومياء سيشعرون أنهم مومياءات أو مجرّد أشياء ما لم يتشبّهوا بالثقافة الغالبة، ومن هنا يبدأ تدمير علاقة الإنسان مع لغته وتصوّراته وحتى جسده.

كشف لعبة التراتبية الوهمية التي اصطنعها الغزاة البيض لنهب الشعوب الأخرى

وهو يضع إصبعه على هذه النقطة، كان فانون يعتقد بأنه قد أشار إلى المدار الصحيح الذي على الشعوب أن تتخذه لـ"الخروج من الليل الطويل"، ولا شكّ بأنه نجح إلى حد كبير في محاصرة الاستعمار ثقافياً، خصوصاً لو وضعنا أفكاره في السياق المباشر لحركة التحرّر من الاستعمار في أفريقيا منتصف القرن الماضي ثم حركات نيل الحقوق المدينة في الولايات المتحدة الأميركية. 

غير أننا لو وضعنا كل ذلك في سلّم زمنيّ أكبر، سنقف على تراجعات وانتكاسات يصعب أن نتخيّل مواقف فانون لو عاش وعايشها، فقد آلت معظم البلاد المحرّرة إلى إدارة "أقنعة بيضاء" أخرجوا الاستعمار من الباب وفتحوا له الشبابيك للنهب مجدّداً. أما عن حال الإنسان في تلك البلاد (كما في بلادنا)، فقد تُرك لمصيره، فتراكمت جراح مرحلة الاستعمار على جراح جديدة، وكيف له بعد ذلك أن يخوض مغامرة الحضور في العالم؟ أن يُستعاد فرانز فانون هو أن تُدعى أفكاره ومفاهيمه إلى مثل هذه الوضعيات الجديدة. 

المساهمون