لا تزال شخصية الكاتب المسرحي والروائي المصري توفيق الحكيم (1898 – 1987) الذي تمرّ ذكرى ميلاده اليوم، تثير جدلاً واسعاً حولها، سواء عند تناول فكره الذي لخّصه في مفهومه عن التعادلية بين الدين والعلم والرغبة بما يحيل إلى نظرة مثالية منفصلة عن الواقع، أو في مسرحه الذي يراوح بين الانغماس في الإشكاليات الفكرية، والبحث عن التجديد في الشكل.
يضاف إلى ذلك، الإشكالية التي حكمت مواقفه السياسية، فهو الذي خاض سجالات طويلة وعديدة مع مجايليه حول قضايا شغلتهم في النصف الأول من القرن العشرين وقد ظلّ مسكوناً بها حتى رحيله، لكنه وجد نفسه محكوماً و"منصاعاً" للمكانة والصورة التي وضعه فيهما جمال عبد الناصر حين تعامل معه كـ"أب روحي" للثورة، معترفاً بعد ذلك أن كهلاً مثله أفقدته الحماسةُ وعيه كما فعلت الجماهير.
وحتى حين حاول أن يستعيد توازنه ويقدّم تبريراته عن تلك المرحلة في كتابه الشهير "عودة الوعي" الذي صدر عام 1974؛ أي بعد أربع سنوات من رحيل عبد الناصر، لم يسلم من الانتقاد على اعتبار أن مراجعاته لم تخرج في غالبها عن رغبة في التطهر، وربما هذا ما جعله أكثر حذراً في تعامله مع السادات وتصدّره المعارضين لجملة سياساته.
يعدّ كتاب "مصر بين عهدين" (1983) أحد أبرز أعماله التي نشرها في أواخر حياته، وضمّ فيه خلاصاته أو شهادته على عصرين عاشهما وكانت له صولات وجولاته في كليهما، وقد افتتحه بسؤال أساسي "من هو المصري؟"، مستعيداً الأوضاع التي عاشتها مصر أثناء حكم العثمانيين وأسرة محمد علي باشا، حين كان الأتراك يحظون بالنفوذ والسلطة بينما لم يخضع البدو لنظام الجندي، ما أفضى إلى أن يكون الفلاح المصري هو الأقل مرتبة اجتماعياً وسياسياً.
ينطلق الحكيم من واقعة ذهاب زعماء الحركة الوطنية المصرية للتفاوض مع المستعمر البريطاني حول الاستقلال عام 1919، حيث أُسقط في يدهم جميعاً حين سألهم الإنكليز إن كانوا سيعودون إلى حكم الدولة العثمانية المنهزمة، فكان جواب هولاء الزعماء بعودة مصر إلى مصر، لكنهم لم يجدّوا جواباً على رد الاحتلال: "إننا لا نعرف شيئاً اسمه مصر، ولكن فقط مجرد قُطر اسمه "القطر المصري".. يتيع سياسياً الدولة العثمانية، وحضارياً "الحضارة العربية" حسب الدين واللغة.. أما مصر، فأين هي؟ وما هي مقوماتها؟ وما هي شخصيتها؟".
يلفت صاحب "عودة الروح" (1933) إلى أن السؤال الجرح ولّد لدى هذه النخب تحدياً أمامهم كما يمكن رصدها في مشروع طلعت حرب أو في المؤلّفات والتنظيرات التي بدأت في عشرينيات القرن الماضي، مسجّلاً بعدها سيرة حياته منذ أن غادر مصر ليكمل دراسته في باريس عام 1925، في تتبّع لأقل التفاصيل والمواقف أهمية لربطها في سياق حضاري ثقافي أشمل بأبعاده السياسية والاجتماعية.
يروي الحكيم مشاهداته في الفن والحركة النسوية والتيارات الفكرية بين الحربيْن العالميتيْن في فرنسا، ثم ينتقل إلى مصر التي عاد إليها في لحظة تشكّل مجتمعها ووعيه بالحداثة وموقعه من العالم ووطنيته وانعكاس ذلك في الفن والأدب، وهي الهواجس الأساسية التي شغلته وشغلت المثقفين في تلك الفترة باحثين عن مصر تمتزج فيها كل المؤثرات الحضارية التي شهدتها.
لا يتسفيض صاحب "رحلة إلى الغد" (1957) في توضيح ماذا حلّ بمصر في عهدها الحالي، لكنه يخلص إلى أن مصر الخالدة التي تكوذّت شخصيتها على مدى العصور... قد رسبت في قلبها"، وأن "التنوير" لم يعد موجوداً، فالعلم والتعليم للحصول على الشهادات والدرجات، مختتماً كتابه بالترجم على الشخصية المصرية والأسرة العربية الكبيرة.