ثمة أشياء لا يمكن أن تذكر إلا بمسمياتها الصريحة؛ تقطع مسافة الحياد إلى الانحياز الواضح والتام الذي تتطلّبه المواقف أحيانًا برؤية حادة، خاصة عندما يتشابك فيها الموقف الأخلاقي مع السياسي الوطني. فإن ما جرى في فض اعتصامي رابعة والنهضة، قبل أربعة أعوام، مذبحة "هولوكوستية" شنيعة، وعدوانًا مفرطًا على الإنسانية، لا يمكن الصفح عنه أو نسيانه وتجاوزه بأي حال.
دبر نظام الجنرال تلك المجزرة بمعاونة أجهزته الأمنية، وعمد حكمه القسري على البلاد بهذه الصورة التي تجاوزت أطرها، كل الأعراف القانونية والحقوقية والدستورية، حتى بلغت قتامتها وسوداويتها حدودًا مأساوية. لم يعد الناجون من آلة القتل ونارها كما كانوا على حالهم الطبيعي؛ فكل من شاهد أحداثها أو شارك فيها، تعرض لهزة نفسية حادة وقلقة جدًا لا تزال تنبش في ذاكرته وتحفر فيها ولا تتركه ينعم لحظة بدون وجع وألم.
تتجاوز محنة رابعة وشهدائها الذين قتلتهم الفاشية العسكرية، جماعة الإخوان المسلمين، وخصوصية مظلوميتهم المحنة التي تعرضوا لها، إلى ما هو أبعد من ذلك وأكثر شمولية. فإن معاناة المصريين التي لم تتوقف منذ أربعة أعوام مضت بعد قتل ما يقرب من ألف روح بشرية، زعم النظام أنها بؤرة إجرامية، يحملون السلاح ويهددون سلامة الدولة، بينما تتصاعد بوتيرة سريعة، أزمات سياسية وتعقيدات اجتماعية واقتصادية، ينوء بأعبائها غالبية المواطنين، لصالح فئة من المنتفعين من رجال الأعمال المنتمين للسلطة.
نموذج السلطة الحالية أشبه بحالة مافياوية داخل السلطة وجهاز الحكومة، والذي يتعمد إلى تصفية كافة العناصر التي تنافسها على السلطة ومصالحها وتحقيق مكاسبها؛ ومن ثم حرص النظام إلى استعادة القبضة الأمنية بجرعة مضاعفة عن سلفه مبارك، وتحقيق سلطوية جديدة، تضرب كافة مقومات التعايش السلمي الذي تنتشر فيه هيستريا الخوف والكراهية والتحريض داخل المجتمع.
في هذا اليوم، الذي تمت فيه عملية فض اعتصامي رابعة والنهضة، جرت "أكبر عملية قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث"، كما تصف منظمة هيومان رايتس ووتش؛ حيث تقدمت آليات عسكرية وأحاطت بجميع مداخل الميدانين فحاصرتهما، بينما تجمع الشباب وحاولوا صد تقدم قوات الأمن ومواجهتهم بالدروع وبعض الأدوات البدائية، لكن الرصاص انهمر من فوقهم ومن كل الاتجاهات، وهيأت قنابل الغاز لأفراد الأمن اصطيادهم واحدًا تلو آخر، وأحرقت الخيام، وجُرفت الجثث.
تحرى النظام إخفاء الحقائق المفزعة والأرقام التي تورط فيها من قتلى ومصابين، وتقديم بيانات كاذبة وأرقام غير واقعية، لكن بلادته فضحت تزويره وعدم الدقة والنزاهة في رصد الوقائع ومحاولة تزييفها لأغراض سياسية وبراجماتية؛ فبينما أعلنت وزارة الصحة بعد يوم واحد من المذبحة عن وقوع 333 قتيلًا مدنيًا، وسبعة ضباط، خلال فض الاعتصامات، و1492 مصابًا وزعوا على 23 مستشفى، أكدت مصلحة الطب الشرعي في المقابل، على لسان متحدثها الرسمي، في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، حصر 627 قتيلًا، خلال واقعة فض اعتصام رابعة وحدها.
وفي مارس/آذار 2014، أعلن وزير الدفاع آنذاك، عبد الفتاح السيسي، أن حصيلة ضحايا الفض لم تتجاوز 312 شخصًا، وبعد يوم واحد من تصريحاته أصدر المجلس القومي لحقوق الإنسان، تقريرًا ذكر أن عدد قتلى اعتصام رابعة العدوية، بلغ 632 قتيلًا، منهم ثمانية عناصر من الشرطة.
فإن الأعداد التي تم حصرها من الجانبين سواء الشرطة أو المعتصمين، والإعلان عنها في بيانات رسمية، وقد صدرت من جهات وشخصيات، تم تعيينهم من قبل النظام والحكومة، ولا يمكن الطعن في انتماءاتهم وولاءاتهم للسلطة، لكن مع ذلك، تفضح هذه الأرقام افتراءات النظام عن تسلح الاعتصام بكميات من الأسلحة والمتفجرات، واستهدافهم للشرطة وقوات الأمن.
فلو صحّت تلك الادعاءات، كان من البديهي أن يسقط من جانب الشرطة أعداد مضاعفة، من مجرد سبع أفراد أو ثمانية أفراد، مقابل المئات من جانب المعتصمين.
ووثق المرصد المصري للحقوق والحريات 1162 حالة قتل، وذكر موقع ويكي ثورة المختص بتوثيق أعداد ضحايا أحداث الثورة المصرية، وقائم عليه مجموعة من الصحافيين الاستقصائيين، أسماء 932 قتيلًا من خلال جثامين كاملة التوثيق، و133 قتيلًا آخر، بمبادرات حصر بلا وثائق رسمية، فضلًا عن خمس جثث مفقودة وفقًا لشهادات ذويهم، و29 قتيلًا مجهول الهوية، إلى جانب ثمانين جثة في مستشفيات الصحة، غير معلومة البيانات، و81 حالة وفاة.
ووثقت منظمة العفو الدولية 600 حالة قتل، مشيرة إلى أن الجهات الأمنية، لم تمكنها من الوصول إلى كل أماكن الاشتباك والاعتداء، بشكل ييسر لها الحصر بدقة، بينما أكدت مؤسسة الكرامة الدولية إن عدد القتلى بلغ 985 شخصًا.
يمكن أن تضحى الصورة اليوم أكثر دقة وتعبيرًا عن أغراض النظام، في السيطرة على المواطن وإخضاعه، والتي توالت بعدها عمليات الاختفاء القسري بالمئات وعمليات الاعتقال العشوائي والتعذيب داخل السجون ومعسكرات الأمن المركزي، وغيرها من الأماكن غير المعلومة، والتي تعتبر مجرد أقبية يمارس فيها التعذيب وانتهاك حقوق الانسان.
أباحت السلطة لنفسها، كل هذا الدم والجثث التي تكسدت في الطرقات وساحات المساجد والمستشفيات الميدانية التي تم إحراقها، بهدف تمكين سلطويتها الجديدة بشرعية العنف المفرط ومرجعيته الوحيدة، بدون ضمانات القانون، بل والعصف بثوابته وسيادته.
فالفاشية الجديدة لم تتمهل لحظة في تثبيت أركانها، وتابعت عملها بدأب، وهي تسقط عنها الأقنعة؛ فلا تتورع عن ممارسة كل ما هو غير أخلاقي؛ مثل وصف كل المعارضين للنظام والمقتولين بـ"الارهابيين"، هذا التصنيف التنميطي الذي يعتبر إشارة بدء نحو تصفية مجموعة أو فرد، بدون التحقق من هويتهم، وتبرئة "الجلاد" و"القاتل"، واعتبار هذا الفعل المعادي للإنسان وحقوقه ومبادئ القانون، ضرورة وطنية لا تكف الأذرع الاعلامية التابعة الدفاع عنها، حتى يتمكن النظام من السيطرة التامة لكافة إحتمالات وإمكانات حدوث تمرد ومواجهته بالقمع.