تحضر الدراما الهندية اليوم بقوّة على الشاشات العربية، بل صارت لها قنوات عربية متخصّصة بعرض الأفلام المدبلجة إلى اللغة العربية، ولم تعد تقتصر على الأفلام فقط، كما كانت علاقة أجيال عربية بها في الماضي، بل صارت تضمّ مسلسلات.
في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت السينما الهندية تساوي مفردات مثل "بكاء، تفجّع" ومآس إنسانية أوّلها اليتم. ومن تابع تلك الأفلام ويريد اليوم استعادة علاقته بتلك السينما التي تطوّرت كثيراً، وباتت تنتج سنوياً أعداداً مضاعفة من الأفلام التي تنتجها هوليوود، سيجد أنّ قليلها سيجذبه حتى النهاية.
ولكن من الواضح أنّ تلك الصناعة البوليودية تخلَت عن "فواجعها" والمآسي بشكلها القديم، وصارت تُجاري متطلبات المشاهد من كوميديا وأكشن وقصص رومانسية قريبة من الواقع.ولا تزال اللوحات الراقصة سيدة المشاهد في تلك الأفلام، إلى جانب الأزياء التي تضجّ بالألوان وجمال التصميمات. كما أن اختيار النجوم يعتمد على حضور أجمل الجميلات في العالم.
ما بقي عالقاً في ذاكرتي عن السينما أيام طفولتي أنّ عيني كانتا تتورّمان من البكاء على بطل الفيلم الهندي الذي يموت في النهاية. فوالداي العزيزان كانا من هواة الأفلام الهندية. وحين سألت والدتي عن سبب اختيارها ووالدي للأفلام الهندية غير المناسبة للصغار، كان جوابها أنّ الأفلام الهندية مضمونة لا تقبيل فيها ولا احتضان، كلّها أغانٍ ورقص، أما الدماء التي كانت ترشّ كالنوافير، حتى كنّا نخالها ستصيبنا برذاذها، فقد كانا يقولان لنا إنها "ربّ البندورة" وليست دماً حقيقياً.
وإن كنّا نصدّق هذا، إلا أنّ تعاطفنا مع البطل المظلوم كان يحوّل دموعه التي تجري كالأنهار إلى غصّات عالقة في حناجرنا. كنّا نخجل من البكاء علناً، فنحبس دموعنا ونؤجلها إلى ساعة خروجنا من الصالة. ويحدث الانفجار البكائي الكبير عند صعودنا إلى السيارة. وهكذا كنا نعود إلى البيت بعد كلّ فيلم هندي، واجمين، حزانى، كالخارجين من جنازة.
في الماضي، لم يكن وارداً لدى غالبية الآباء حضور أفلام الكرتون كرمى لعيون أطفالهم. فأيّ أبٍ يمكن أن يغادر منزله، في سبعينيات القرن الماضي، ليشاهد توم أند جيري أو بوباي مثلاً، والتي كانت تعرض يومياً على التلفزيون. كما أن الجدّية والصرامة في التربية لم تكن لتتناسب حينها مع "كوميدية" لوريل وهاردي، أو المهابيل الثلاثة. أما بالنسبة لأفلام شارلي شابلن الصامتة لم تكن لتناسب مزاج أبي "المحافظ"، لأن شابلن كان "ثورياً" في عصره، وكانت أفلامه تصنف على أنها للكبار.
الزمن الأول تحوّل، والسينما اليوم صارت أكثر إبهاراً وضخامة في الإنتاج. وأفلام الكرتون باتت تضاهي في قصصها وإخراجها أفلام الدراما والأكشن والكوميديا، وتسجل الأرقام القياسية في الإيرادات.كما أن أصول التربية الحديثة تلزم الأبوين بمشاركة أطفالهم متعة الترفيه والتثقيف كذلك. فيشاركان أطفالهما حضور أفلام الكرتون المشوقة والممتعة.
الأفلام الهندية التي ما زلت أذكرها حتى اليوم هي فيلم "ولدي". والمشهد الذي تحوّل إلى كابوس يراودني في أحلامي، هو لحظة يدفع الرجل الشرير الأب العطوف نحو الهاوية، فيعلق الوالد على شجرة تبدأ جذورها تقتلع من حافة الجرف. أذكر أن المشهد كان طويلاً حتى خُيل لي أنّ روحي انسحبت بدورها من شدّة خوفي على الأب "البطل" من الموت، والذي كان ينادي ابنه الباكي وزوجته التي تولول بدورها هلعاً.
الفيلم الثاني الذي أذكره كان بعنوان "الأخرس"، والزبدة منه تتلخّص في أن الأب والأم يعيشان على أمل أن يستعيد ولدهما القدرة على النطق، ولكن قبل نهاية الفيلم بقليل تنجح العملية الجراحية ويصبح الطفل قادراً على النطق. ولكن ضرورات العمل الفني البوليودي في حينه حتّمت على كاتب السيناريو أن يدبّر حادثاً مفجعاً للأب، فيفقد سمعه قبل أن يسمع ولده يناديه "بابا... بابا". وهكذا عدنا يومها إلى البيت باكين وحزانى على مصير البطل، ونمنا ليلتها، مكدّرين ومغمومين بسببه.
الفيلم الثالث كان بعنوان "الفيل صديقي" (إنتاج عام 1971)، يحكي قصة الفيل المحبوب، الذي يعيش معززاً مكرماً من قبل الأب، ومعذباً من الأم. والمهم أن الفيل في النهاية يضحي بنفسه، ويمر من أمام صاحبه ليحميه من طلقات نيران أحد الأشرار. فتصيب الرصاصة الفيل في مقتل، ويموت. كان لموت الفيل أثر مؤلم في نفوسنا الصغيرة، لأننا أثناء حضورنا للفيلم، ومن شدة تعلقنا بالفيل البطل، تمنينا لو أن والدي يحضر لنا فيلاً لنربيه في البيت.
لم تكن مراعاة "نفسية" الطفل من الأمور التي تؤخذ بالحسبان في ذلك الوقت، فالضربة التي لا تقتلك تقويك، ربما كان هو المثل المرجع الذي يستند إليه الآباء في تربية أبنائهم. وعلى هذا المنوال كانت "نفسياتنا" تتلقى الضربات تباعاً، وكل ذلك بسبب الأشرار في الأفلام الهندية. ولكن من الواضح أننا كنا، بين الضربة والأخرى، نتعافى، لأننا كنا نذهب بكلّ طيب خاطر وبحماس للفيلم التالي، ونحن بكامل استعدادنا لجرعات الحزن المرتقب، وما سيليها من بكائيات ودموع.
بعض الأفلام الهندية لم نتكبّد عناء ذهابنا إلى صالة السينما لحضورها، بل كانت هي التي تحضر إلينا. ولا يذهب خيالكم بعيداً، لم نكن يومها قد اقتنينا جهاز فيديو، حتى جهاز التلفزيون عندنا كان سابقاً للألوان. لكن إحدى قريباتنا كانت حكواتية من نوع آخر، اختصاصها سرد قصص الأفلام بكل تفاصيلها، بنبرة تحاكي المشاهد المصورة. كنا نفرح بزياراتها لنا، لأنها كانت تنقل لنا ما حضرته من أفلام بكل أمانة وحرفية. وكانت من محبّي الأفلام الهندية، ما جعلنا نعيش "مآسي" الأبطال، عن بُعد، بكلّ انسجام.
الأفلام الهندية والمسلسلات باتت في متناولنا، فالتلفزيونات تعرضها باستمرار. وطالما كانت الدراما ولا تزال مرآة للمجتمع، فمن الجيد أن نرى اختلاف انعكاسات تلك المرآة بين الأمس واليوم.
في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت السينما الهندية تساوي مفردات مثل "بكاء، تفجّع" ومآس إنسانية أوّلها اليتم. ومن تابع تلك الأفلام ويريد اليوم استعادة علاقته بتلك السينما التي تطوّرت كثيراً، وباتت تنتج سنوياً أعداداً مضاعفة من الأفلام التي تنتجها هوليوود، سيجد أنّ قليلها سيجذبه حتى النهاية.
ولكن من الواضح أنّ تلك الصناعة البوليودية تخلَت عن "فواجعها" والمآسي بشكلها القديم، وصارت تُجاري متطلبات المشاهد من كوميديا وأكشن وقصص رومانسية قريبة من الواقع.ولا تزال اللوحات الراقصة سيدة المشاهد في تلك الأفلام، إلى جانب الأزياء التي تضجّ بالألوان وجمال التصميمات. كما أن اختيار النجوم يعتمد على حضور أجمل الجميلات في العالم.
ما بقي عالقاً في ذاكرتي عن السينما أيام طفولتي أنّ عيني كانتا تتورّمان من البكاء على بطل الفيلم الهندي الذي يموت في النهاية. فوالداي العزيزان كانا من هواة الأفلام الهندية. وحين سألت والدتي عن سبب اختيارها ووالدي للأفلام الهندية غير المناسبة للصغار، كان جوابها أنّ الأفلام الهندية مضمونة لا تقبيل فيها ولا احتضان، كلّها أغانٍ ورقص، أما الدماء التي كانت ترشّ كالنوافير، حتى كنّا نخالها ستصيبنا برذاذها، فقد كانا يقولان لنا إنها "ربّ البندورة" وليست دماً حقيقياً.
وإن كنّا نصدّق هذا، إلا أنّ تعاطفنا مع البطل المظلوم كان يحوّل دموعه التي تجري كالأنهار إلى غصّات عالقة في حناجرنا. كنّا نخجل من البكاء علناً، فنحبس دموعنا ونؤجلها إلى ساعة خروجنا من الصالة. ويحدث الانفجار البكائي الكبير عند صعودنا إلى السيارة. وهكذا كنا نعود إلى البيت بعد كلّ فيلم هندي، واجمين، حزانى، كالخارجين من جنازة.
في الماضي، لم يكن وارداً لدى غالبية الآباء حضور أفلام الكرتون كرمى لعيون أطفالهم. فأيّ أبٍ يمكن أن يغادر منزله، في سبعينيات القرن الماضي، ليشاهد توم أند جيري أو بوباي مثلاً، والتي كانت تعرض يومياً على التلفزيون. كما أن الجدّية والصرامة في التربية لم تكن لتتناسب حينها مع "كوميدية" لوريل وهاردي، أو المهابيل الثلاثة. أما بالنسبة لأفلام شارلي شابلن الصامتة لم تكن لتناسب مزاج أبي "المحافظ"، لأن شابلن كان "ثورياً" في عصره، وكانت أفلامه تصنف على أنها للكبار.
الزمن الأول تحوّل، والسينما اليوم صارت أكثر إبهاراً وضخامة في الإنتاج. وأفلام الكرتون باتت تضاهي في قصصها وإخراجها أفلام الدراما والأكشن والكوميديا، وتسجل الأرقام القياسية في الإيرادات.كما أن أصول التربية الحديثة تلزم الأبوين بمشاركة أطفالهم متعة الترفيه والتثقيف كذلك. فيشاركان أطفالهما حضور أفلام الكرتون المشوقة والممتعة.
الأفلام الهندية التي ما زلت أذكرها حتى اليوم هي فيلم "ولدي". والمشهد الذي تحوّل إلى كابوس يراودني في أحلامي، هو لحظة يدفع الرجل الشرير الأب العطوف نحو الهاوية، فيعلق الوالد على شجرة تبدأ جذورها تقتلع من حافة الجرف. أذكر أن المشهد كان طويلاً حتى خُيل لي أنّ روحي انسحبت بدورها من شدّة خوفي على الأب "البطل" من الموت، والذي كان ينادي ابنه الباكي وزوجته التي تولول بدورها هلعاً.
الفيلم الثاني الذي أذكره كان بعنوان "الأخرس"، والزبدة منه تتلخّص في أن الأب والأم يعيشان على أمل أن يستعيد ولدهما القدرة على النطق، ولكن قبل نهاية الفيلم بقليل تنجح العملية الجراحية ويصبح الطفل قادراً على النطق. ولكن ضرورات العمل الفني البوليودي في حينه حتّمت على كاتب السيناريو أن يدبّر حادثاً مفجعاً للأب، فيفقد سمعه قبل أن يسمع ولده يناديه "بابا... بابا". وهكذا عدنا يومها إلى البيت باكين وحزانى على مصير البطل، ونمنا ليلتها، مكدّرين ومغمومين بسببه.
الفيلم الثالث كان بعنوان "الفيل صديقي" (إنتاج عام 1971)، يحكي قصة الفيل المحبوب، الذي يعيش معززاً مكرماً من قبل الأب، ومعذباً من الأم. والمهم أن الفيل في النهاية يضحي بنفسه، ويمر من أمام صاحبه ليحميه من طلقات نيران أحد الأشرار. فتصيب الرصاصة الفيل في مقتل، ويموت. كان لموت الفيل أثر مؤلم في نفوسنا الصغيرة، لأننا أثناء حضورنا للفيلم، ومن شدة تعلقنا بالفيل البطل، تمنينا لو أن والدي يحضر لنا فيلاً لنربيه في البيت.
لم تكن مراعاة "نفسية" الطفل من الأمور التي تؤخذ بالحسبان في ذلك الوقت، فالضربة التي لا تقتلك تقويك، ربما كان هو المثل المرجع الذي يستند إليه الآباء في تربية أبنائهم. وعلى هذا المنوال كانت "نفسياتنا" تتلقى الضربات تباعاً، وكل ذلك بسبب الأشرار في الأفلام الهندية. ولكن من الواضح أننا كنا، بين الضربة والأخرى، نتعافى، لأننا كنا نذهب بكلّ طيب خاطر وبحماس للفيلم التالي، ونحن بكامل استعدادنا لجرعات الحزن المرتقب، وما سيليها من بكائيات ودموع.
بعض الأفلام الهندية لم نتكبّد عناء ذهابنا إلى صالة السينما لحضورها، بل كانت هي التي تحضر إلينا. ولا يذهب خيالكم بعيداً، لم نكن يومها قد اقتنينا جهاز فيديو، حتى جهاز التلفزيون عندنا كان سابقاً للألوان. لكن إحدى قريباتنا كانت حكواتية من نوع آخر، اختصاصها سرد قصص الأفلام بكل تفاصيلها، بنبرة تحاكي المشاهد المصورة. كنا نفرح بزياراتها لنا، لأنها كانت تنقل لنا ما حضرته من أفلام بكل أمانة وحرفية. وكانت من محبّي الأفلام الهندية، ما جعلنا نعيش "مآسي" الأبطال، عن بُعد، بكلّ انسجام.
الأفلام الهندية والمسلسلات باتت في متناولنا، فالتلفزيونات تعرضها باستمرار. وطالما كانت الدراما ولا تزال مرآة للمجتمع، فمن الجيد أن نرى اختلاف انعكاسات تلك المرآة بين الأمس واليوم.