ذاكرة محمود وخرافية إميل

02 يونيو 2015
+ الخط -
رغم أن الأدب العربي حافل بالصنف الأدبي الموسوم بالإنجليزية بمفردة "allegory"، من أمثال "كليلة ودمنة" و"حي بن يقظان" والكثير من الحكايات الشعبية ومن قصص "ألف ليلة وليلة"، لا تزخر اللغة العربية، مع غزارة مفرداتها وثراء إنتاجها الأدبي والنحوي والبلاغي، بكلمة موازية تماما للمفردة الإنجليزية. أقرب ما نجده في العربية هي عبارة "الحكاية المثلية" التي تستخدم في الكلام عن الكتابين المذكورين. لكن هذه العبارة لا تفي بتحديد الوظيفة الجمالية التي تقوم بها المفردة الأجنبية، أوّلًا لأنها توحي بأن الحكاية هي عملية تحويل المثَل الى حكاية، مثلًا الحكايات المتنوعة في الشرق العربي التي تفسر مَثَل "إللي بعرف بعرف، واللي ما بعرف بقول كف عدس". وثانيًا لأن المفردة الأجنبية تدلّ على نمط من الكلام أو الخطاب، كالمديح والهجاء، وليس فقط على صنف من أصناف الأدب، كالحكاية، حيث يسري مفعول العملية السردية على مستوييـن، الحرفي والرمزي. لذا فإني أقترح عبارة "أداء مَثَلي" كترجمة لـ "allegory". فلو نظرنا إلى محمود درويش، وهو شاعر فلسطيـن الكبير، فبإمكاننا أن نعتبر أن كلّ ما أنتجه من شعر ونثر شعري وشعر نثري يمكن عدّه "أداءً مثليًا وطنيًا" أي "national allegory".

اقرأ أيضاً: أمونيوس في آراء قدماء الفلاسفة

ونرجع الآن إلى الإجابة عن السؤال الأوّل، إذ إنها تنطلق من المفهوم المشار إليه هنا، الذي يعدّ أن كلّ ما يقوم به الفلسطيني من أعمال فنية أو ثقافية، يتحتم فهمه على أنه أداء مثَلي وطني. أي أن المرموز إليه المبطن هو دائمًا فلسطين. ولتفسير سبب ذلك، يجب الإقرار بأن الوضع الفلسطيني متأزّم إلى درجة وجودية. فالهجوم على فلسطيـن الذي بدأ من انطلاقة الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتمثّل بوعد بلفور الذي محا الهوّية الفلسطينية من الوجود عام ١٩١٧، بالإشارة إلى الأكثرية الساحقة من شعب فلسطيـن العربي بهذه الصفة: "السكان المتواجدون في البلد من غير اليهود"، وكأن وجودنا في فلسطيـن كان مصادفة. هذا الهجوم ما زال قائمًا حتى يومنا، وبالحدّة ذاتها التي بدأ بها المشروع الصهيوني. فالمستهدف لم يكن فقط أرض فلسطيـن ومعالمها التاريخية والدينية، بل الهوّية الفلسطينيـة ذاتها، وكذلك الذاكرة الفلسطيـنية. وكاد ذلك المخطط أن ينجح لولا استكمال النكبة عام ١٩٦٧، وهو عام النكسة بالنسبة لإسرائيل لأن مخطط محو الهوّية والذاكرة الفلسطينية أُفشل مع انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية.
وقد علّمنا محمود درويش أن أداة الذاكرة هي الكتابة، وأضيفُ إلى هذا المفهوم الكتابي، مفهوماً شفهياً يضمّ الفنون الشعبية المحكية، بالإضافة الى العادات والتقاليد، وخصوصًا تقاليد الأعراس الفلسطينية. وكما أوضحت في مقدّمتي للترجمة الإنجليزية لـ "ذاكرة للنسيان"، فإن هذا العنوان مفعمٌ بالغموض ويمكن فهمه على عدّة مستويات متناقضة، لأن حرف "لـ" يمكن أن يدلّ على عكس ما هو في الظاهر، أي أن الكتاب هذا هو ذاكرة ضدّ النسيان، كأن نقول "هذا دواء للكحة". وفي الوقت ذاته يدلّ العنوان على خوف محمود درويش المبطن من تلاشي الذاكرة الفلسطينية مع مرور الزمن. ويوحي العنوان أيضًا بمعنى فلسفي عميق، وهو أن كلّ ذاكرة هي للنسيان شاءت أم أبت، لأن كليهما مرتبطان بعملية معرفية ووجودية.

اقرأ أيضاً: سببٌ إضافي

في جميع الأحوال، ومهما كان تأويلنا لمعنى العنوان، يبقى الكتاب نفسه أداءً مَثَليًا وطنيًا، ضمن جميع مؤلفات درويش، لأنه يشكّل جزءًا من النضال الفلسطيني ضدّ عملية محو الهوّية الوطنية الفلسطينية من الوجود، التي كانت الهدف من غزو لبنان عام ١٩٨٢، وكذلك مجزرتا صبرا وشاتيلا اللتان رافقتا ذلك الغزو.
أشرت أعلاه إلى أهمية ضمّ التراث القولي الفلسطيني والتقاليد الفلسطينية إلى مكوّنات الأداء التعبيري المَثَلي، ذلك لأن هذا التراث هو الأداة الرئيسة لتعريف الفرد الفلسطيني إلى ذاته. ولذا نرى أن الفلسطيني المقيم في إسرائيل، لم يجد منفذًا سياسيًا أو اجتماعيًا للتعبير عن هوّيته الوطنية، فلجأ إلى التشبّث بتراثه القولي وعاداته وتقاليده.على سبيل المثال يمكن ذكر فيلم "عرس في الجليل" للمخرج الفلسطيني المشهور ميشال خليفة، حيث لجأ المخرج إلى تحويل طقوس العرس الفلسطيني إلى عرض مسرحي أمام الحاكم العسكري، إصرارًا على العمق التاريخي للوجود الفلسطيني في البلاد.
ومن هنا، أي من منظور الأداء المثلي الوطني، يمكننا فهم دمج إميل حبيبي لحكاية شعبية فلسطينية ضمن حبكة روايته الأخيرة "سرايا بنت الغول، خرافية". ومن العنوان نلاحظ أن الرواية تدّعي أنها حكاية شعبية فلسطينية، إذ إن مفردة "خرافية" ليست متداولة في البلدان العربية المجاورة، حيث نجد حكاية وحدّوته وسالفة، وغيرها من المصطلحات، هذا أولًا. وثانيًا يضع لها المؤلّف الرواية ضمن إطار حكواتي، حيث إن المدخل الى الرواية، يتمّ من خلال عبارة مقتبسة من حكاية سرايا، التي يكرّس لها المؤلّف صفحة المدخل؛ "سرايا، يا بنت الغول / دلّي شعرك لأطول". وكذلك يختم المؤلف الرواية بعبارة مقتبسة من فنّ الحكاية الشعبية؛ "ولو كان لي بيت قريب / لجئتكم من مؤونة بطبق زبيب". على ما أظن أن ما يريد حبيبي الإشارة إليه من خلال هذه الخيارات الجمالية هو الإصرار على العمق التاريخي لوجود الشعب الفلسطيني على أرضه، حيث روت الجدّات على مدى العصور الحكايات للأطفال. وإضافة إلى ما يقوم به حبيبي على الصعيد الوطني، فإنه أيضًا يساهم في خلق مفهوم جديد لفنّ الرواية لا يفرق بيـن الشفهي والكتابي، ولا ينبذ الفنون الشعبية من الناحيتين الوطنية والجمالية.
المساهمون