ذاكرة أيلول المثخنة
بتطبيع كل من الإمارات والبحرين علاقاتهما مع إسرائيل، جهاراً نهاراً هذا اليوم، يتربع الخامس عشر من سبتمبر/ أيلول فوق وسادة القلب، جرحاً مضافاً إلى جراح أيلولية لم تندمل منذ نصف قرن، وبأخذ دوره في الصف الطويل يوماً مكفهراً آخر، بين جملةٍ طويلةٍ من أيام أحد أكثر شهور العام مجلبةً للأحزان والهوان، وأشدّها بعثاً للأسى والآلام، جرّاء ما غصّ به هذا الأيلول المشؤوم من وقائع موجعة، وفاض عنه الشهر الواصل بين آخر الصيف وأول الخريف من انهياراتٍ مدوّية، ارتبط معظمها بوشائج قرابة وثيقة، أو بأواصر نسب هجينة مع الشهر التاسع في التقويم الغريغوري.
لم يحتفل بقدوم هذا الشهر الطافح بالنُّدوب السوداء على جبين هذه المرحلة العصيبة إلا فيروز التي احتفت به ذات يوم، وغنت له إحدى أجمل أغنياتها المليئة بالشجن، ولولا قليل لحبّبتنا به سفيرة النجوم، عندما شدت بصوتها المخملي "ورقو الأصفر تحت الشبابيك شهر أيلول ذهب مشغول ذكّرني فيك..."، فيما الذاكرة العربية المستباحة مثخنة، ومتخمة بانكساراتٍ حدثت في هذا الأيلول الأسود بحق، ولا سيما الذاكرة الفلسطينية المسكونة بالنازلات، هذه التي أشبعتها أحداث هذا الشهر الفارق عما قبله وعما بعده، بالمجازر الرهيبة، والسهام المسمومة، فضلاً عن الطعنات السياسية من وراء الظهر حيناً، وأحياناً وجهاً لوجه.
من معين الذاكرة الغضّة، ومن دون الحاجة إلى الأرشيف الورقي، أو الرجوع إلى محرّكات البحث الإلكتروني، نجد أن أشهر أيام أيلول/ سبتمبر على الإطلاق، كان يوم الحادي عشر منه، حين وقعت لأول مرة في التاريخ غزوة خارجية كبيرة لأراضي الولايات المتحدة الأميركية، وانهار برجا التجارة العالمي أمام الكاميرات قبل 19 عاماً من اليوم، وهو ما أدى، كما هو معلوم علم اليقين، إلى مقتل آلاف المدنيين، وأدّى في ما أدّى إليه إلى جعل ذلك اليوم المشهود حداً فاصلاً بين زمنين في عالم ما بعد الحرب الكونية الثانية، الأمر الذي كان كافياً وحده لتأهيل هذا الشهر المشؤوم لنيل لقب أيلول الأسود بكل استحقاق.
غير أنه في المدوّنات الأقرب إلى الوجدان، نعثر على أيام أخرى شديدة السواد من أيلول الموسوم بالأسود عن جدارة تامة، لعل أولها كان عام 1970 في الأردن، عام الصدام بين الجيش والفدائيين، وعام وفاة جمال عبد الناصر، ثم تلاه بعد اثني عشر عاماً أيلول 1982، عام وقوع مجزرة صبرا وشاتيلا، التي جرت تحت الرعاية الإسرائيلية، وعلى الأيدي ذاتها التي كانت قد ارتكبت مجزرة تل الزعتر تحت رعاية النظام الأسدي عام 1976. وقد يقول ثورجي مرابط على الإنترنت إن "مجزرة" أوسلو السياسية قد وُقِّع عليها في الثالث عشر من سبتمبر/ أيلول 1993، وها هي الإمارات والبحرين ترتكبان مجزرة جديدة عام 2020.
والحق أنه لا يوجد في الروزنامة العربية شهر ينافس أيلول بؤساً وسوءاً سوى شهر يونيو/ حزيران، الذي وقعت فيه أشد الهزائم العربية في الخامس من ذلك الشهر اللئيم عام 1967، تلك الهزيمة المنكرة التي لم تنتهِ فصولها بعد، ولم تتوقف مضاعفاتها الكارثية. وفي السابع من الشهر نفسه، قُصف المفاعل النووي العراقي عام 1981، بتنسيق مع إيران، كما اتضح فيما بعد، وفي السادس من الشهر ذاته عام 1982 بدأت مجريات غزو إسرائيل بيروت، حيث خرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان.
ويبدو أن أيلول، سيئ الذكر هذا، لا يرغب في كفّ بلاويه عنا إلى يوم الدين، ولا ينوي، على الأرجح، التوقف عن ملاحقتنا بكل ما في جعبته الواسعة من شر مستطير، بل يودّ، والعياذ بالله، وفق المقدّمات المنذرة بمزيد من خطوات تطبيعٍ تلوح خجلة على الطريق الزلق، أن يسقينا كؤوساً أخرى طافحاتٍ بمرارة أشد وأدهى من كل مذاق كريه تجرّعناه، ولا سيما إذا وقع الحوت الخليجي الكبير في شبكة الصياد دونالد ترامب، علماً أن العين الإسرائيلية كلها عليه، فيما الدولتان الموقعتان على اتفاق اليوم في البيت الأبيض هما مجرد سمكتين صغيرتين، أو قل طُعمين محفزين للشهية، بالقياس إلى حجم الطعم الكبير الجاري إنضاجه على نار خفيفة.