ذاكرة أبو أدهم القاتلة

19 سبتمبر 2016
كثر هم أبو أدهم (أنور عمرو/ فرانس برس)
+ الخط -
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة". (محمود درويش)

لا يعرف أبو أدهم متى يعود إلى فلسطين، أو بالأحرى هل يعود إليها في يوم، ولو ليدفن في أرض قريته الواقعة في منطقة الجليل على مسافة قصيرة من جنوب لبنان. أبو أدهم الذي فقد اثنَين من أبنائه الثلاثة في مجرى الثورة الفلسطينية، وبات عمره الآن سبعين عاماً. عاصر أبو أدهم كلّ العواصف التي اجتاحت المنطقة منذ نكبة فلسطين. يومها، حمله والداه في الوعر حتى وصلوا به إلى لبنان.

يعيش أبو أدهم اليوم مع زوجته وابنته الأرملة وولدَيها، في غرفة ومطبخ. أمّا مقتنياته المنزلية فمتواضعة أو متهالكة. ظلّ التلفزيون الأبيض والأسود على الرفّ يعمل عقوداً حتى أكّد له المصلّح أنّ لا مجال لتصليحه، فتخلّى عنه مكرهاً. عمل أبو أدهم في البناء، كان "معمرجياً" كما يقول اللبنانيون، لكن لم يعد بإمكانه رفع أحجار الباطون بثقلها الكبير ورصفها في الجدران. لم يعد متعهدو البناء يقصدونه أو يرغبون في تشغيله كما كانوا. باتوا يفضّلون عليه الأكثر فتوّة من عمّال سوريين أو فلسطينيين أو لبنانيين. لذلك، انكفأ نحو تمضية يومه متكلاً على ما تجود عليه الأونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) وما تحصل عليه ابنته من شغلها في معمل خياطة.

لم يكن أبو أدهم قط على هامش الحياة كما هو اليوم، إذ يمضي نهاراته متنقلاً بين منزله في شاتيلا (بيروت) وجملة أقاربه وأصدقائه في مخيَّمي صبرا وبرج البراجنة للاجئين الفلسطينيين. دائماً، كان يضع نفسه في قلب الأحداث إلى حدّ جعل زوجته تتهمه بأنّه هو من دفع بابنيه إلى الالتحاق بالمنظمات الفدائية، ليستشهدا تباعاً في عامَي 1975 و1982.

اليوم، يعاني أبو أدهم من ضيق في التنفّس ويستعمل "طساسة" بانتظام. رطوبة المنزل حيث يقيم بالقرب من المكان الذي يضمّ رفات شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا، تزيد الطين بلة. كذلك يتناول دواءً لمرض السكري، مع أنّه يحافظ كما يقول على نسبة سكر معقولة.

يشعر أبو أدهم أحياناً كثيرة بالضياع. ذاكرته "قوية مثل الإسمنت المسلح" كما يقول، حتى أنّه ما زال يذكر كيف حمله والداه في طريق التهجير وكيف حدث ما حدث متنقلاً بين مكان وآخر حتى استقرّ به المقام في شاتيلا وصولاً إلى اليوم. يعرف أبو أدهم أنّه وعائلته وباقي اللاجئين يستحقون حياة ملائمة قد لا تنطبق عليها المواصفات الدولية لمن هم في مثل سنّه، إلا أنّها تكون جديرة بعيش مكافح حقيقي.. حياة يستحقها وتستحقه.

يرى أبو أدهم بوضوح أنّ الأيام تتسرّب من بين أصابعه من دون قدرة على الإمساك بها في قبضة كفه الصلبة. هو لا يتمتع برعاية وحماية وضمانات. والأصعب من كلّ ذلك أنّه من دون وطن يحمل هويته إلى أيّ مكان يقصده، حتى لو كان ذلك المكان مجرّد قبر صغير متواضع يحتضن جسده المشرّب بسمرة العمل وشمس المعاناة.

(أستاذ جامعي)

المساهمون