ذئاب المضاربة تحول أسواق المال إلى "كازينوهات قمار"

11 ابريل 2014
المضارب الذي كاد أن يفلس اكبر بنوك فرنسا
+ الخط -
قبل اسبوعين ثبتت المحكمة الفرنسية العليا في باريس الحكم  السابق، الصادر على  المضارب جيروم كورفيل، بالسجن ثلاث سنوات، ولكنها ألغت الحكم الصادر بتغريمه بمبلغ 4.9 مليار يورو ومطالبته بدفعها لبنك "سوسيته جنرال". وبينما كان المحامي  الفرنسي الشهير، باتريس، يرافع عن قضية في باريس، كان جيروم كورفيل يحج إلى الفاتيكان ربما طلباً للمغفرة عن الخطايا التي ارتكبها في حق المستثمرين والبنك.

للذين لا يعرفون كورفيل، فهو أشهر مضارب محتال في العالم. كان يضارب في اسواق المشتقات المالية وحركة الاسهم وأسعار الفائدة لصالح مصرف "سوسيته جنرال". ويُعدّ من الفرسان الذين كان مصرف " سوسيته جنرال" يعتز بهم، حيث يدفع بهم كل صباح الى غابة المضاربات المالية ليكسب المليارات، قبل ان يعثر حصان رهانه ويقع في الفخ الذي كبد البنك الفرنسي حوالى 6.9  مليار دولار.

حسب معطيات القضية التي تفجرت في عام 2010 واستغرقت مرافعاتها أشهرا عدة ، فإن جيروم كان يراهن بنحو 750 مليار دولار على حركة العملات في أسواق الصرف لسنوات ويخسر، ولكنه كان يخفي خسائره عن المصرف الفرنسي العريق. والمضاربة على حركة العملات من أهم تجارة المشتقات في السوق المالية، حيث يراهن المضارب على هامش ارتفاع العملة صعوداً وهبوطاً. كورفيل جيروم، مثله مثل العديد من المضاربين، الذي كانت تجذبهم المضاربات وتتملكهم روح المغامرة، كان يملك حسابين، أحدهما حساب وهمي كان مفتوحاً أمام بنك" سوسيته جنرال" للمراجعة والتدقيق، وآخر حقيقي كان يخفيه وتتراكم فيه الخسائر التي كان يأمل أن يحولها الى أرباح يوماً ما، كما هو الحال في كازينوهات القمار. وفيما تواصل جهات الاشراف والرقابة في بنك " سوسيته جنرال"،  تدقيق الحساب الوهمي، يواصل المضارب المحتال المتاجرة في الحساب الحقيقي، الذي يضم الخسائر. هكذا تستمر الخسائر وتتضخم المطالبات والالتزامات المالية على البنك. ولـ "سوء حظه" ،يكتشف البنك، فجأة، لعبة كورفيل قبل أن يصله حظ الارباح. وكانت النتيجة فضيحة كبرى للبنك وللمضارب نفسه.

جيروم كورفيل لم يكن المصرفي الوحيد في عالم " احتيال المضاربات"، التي كادت ان تفلس النظام المصرفي العالمي في السنوات الاخيرة ولا تزال. فهنالك وسيط التعامل، كويكو أدوبلي، الذي كان يتعامل لصالح بنك "يو بي اس" السويسري الشهير. أدوبلي،  الذي يقضي الان عقوبة السجن في بريطانيا، خسَّر البنك السويسري العريق 2.3 مليار دولار في عمليات مضاربة أخفاها عن البنك طوال ثلاث سنوات. وبنك "يو بي إس" من البنوك الاستثمارية العريقة والكبرى في عالم الاستثمار، وقد أجرى مؤخرا عمليات تغيير واسعة في نظم الإدارة والاستثمار، بما في ذلك تعيين رئيس تنفيذي جديد لجذب العملاء. ورغم أن الرئيس التنفيذي الجديد لبنك " يو بي اس" عمل في السابق في الوساطة المالية، فإن المتهم أدوبلي تمكن من إخفاء خسائره والاستمرار في المضاربة دون أن يكتشفه البنك لسنوات استمرت منذ عام 2008 والى حين اكتشاف الخسائر في عام 2012.

تمثل هذه القضايا، وقبلها فضيحة  افلاس بنك "بارينغز" البريطاني بواسطة المضارب نيك ليسون في سنغافورة، دليلا جديدا على أن خطايا المضاربة في أسواق المال تتواصل، وأن الجرائم المالية المتعلقة بالمضاربة من الصعب السيطرة عليها من خلال الأنظمة الداخلية للمصارف من ضوابط رقابية وحدود مخاطرة وبرامج كومبيوتر. وربما يكون الضابط الوحيد الذي سيوقف مثل هذه الجرائم هو الضابط الأخلاقي، وهو معيار مفقود في غابة المضاربة الشرسة على المال في أسواق الصرف. وكما سيكون من المستحيل أن تمنح مجموعة من المقامرين مبالغ معينة من المال للمقامرة، وتطلب منهم التقيد بالحدود في كازينوهات القمار، وتأمل أن ينفذوا جميعا التعليمات والتقيد بحدود المخاطرة، فلا بد من أن يفلت أحد المقامرين ويتسبب في كارثة، سيكون من المستحيل أيضا أن يتقيد المضاربون بضوابط المخاطرة وحدود المضاربة، التي ينص عليها البنك في أسواق المال المتسمة بالتقلب الشديد والسريع في معادلات الأسعار والقرارات المالية والسياسية التي تحكمها.

يقول مصرفي بريطاني إن الطريقة والمواصفات التي تعين بها المصارف الاستثمارية موظفي التداول والمتاجرة، الذين يضاربون لصالحها في أوراق الصرف والفائدة والسلع، هي ذات المواصفات التي تصنع منه مجرما. إن المصارف تريد شخصا عنيدا مقامرا يتعدى الاشارات الحمراء ولا يلتزم بمعايير  مهنية أو أخلاقية سوى معيار تحقيق أكبر نسبة من الارباح للبنك، وبالتالي الحصول على أكبر حجم من المعاملات.
وتضع البنوك عادة  خططا حسابية يشرف عليها عباقرة في الرياضيات والعلوم المالية، لحساب هوامش المضاربة الدنيا والعليا، وتشتري برامج ذكية وأجهزة كومبيوتر سريعة وترسم حدودا صارمة للمخاطرة. ولكن حينما يشرع المتداول بالتعامل الفعلي في عمليات المضاربة، تصبح النظرية شيئا والتنفيذ شيئا آخر، حيث يجد المضاربون أنفسهم في وسط معركة قاسية وشرسة تنهار فيها الأعصاب، ويسيطر عليهم القلق والخوف والرعب في حال الخسائر، والطمع والجشع والزهو في حال الربح. وتنجم عمليات الاحتيال المالي من فشل المضارب في ضبط الخسائر.
المساهمون