لم تعش محافظة سورية تهميشاً متعمداً من نظام الأسد كالذي عرفته دير الزور في أقصى الشرق السوري، والتي بقيت لعقود طويلة في قلب خارطة التهميش التي وضعها حافظ الأسد لعدة محافظات سورية، مع استيلائه على السلطة في 1970، رغم كون دير الزور واحدة من كبريات المحافظات السورية لجهة المساحة، فضلاً عن الثروة النفطية الهائلة التي تضمّها، بالإضافة إلى أنها واحدة من أهم سلال السوريين الغذائية. وعادت محافظة دير الزور المقسمة الآن إلى منطقتي نفوذ إلى واجهة الحدث السوري، مع محاولة جديدة من أجل تشكيل جسم سياسي واحد يمثل ريف المحافظة الواقع تحت سيطرة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) يمكن أن يلعب دوراً في إدارة مفاوضات مع التحالف الدولي، للمشاركة في تحديد مصير جزء من الشرق السوري.
وأعلن، الجمعة الماضي، عن تشكيل "الهيئة السياسية لمحافظة دير الزور"، المؤلفة من ناشطين سياسيين وشيوخ ووجهاء عشائر عربية، اجتمعوا في بلدة الكشكية الخاضعة لسيطرة "قسد" تحت شعار "لا للتبعية، لا للوصاية، لا للتهميش". وعرّف المجتمعون عن أنفسهم بأنهم من أبناء العشائر العربية والشخصيات الاجتماعية والناشطين السياسيين والإعلاميين في الداخل وبلاد المهجر "الذين آلمهم التدهور المتواصل للأوضاع في دير الزور، ووجدوا أن من الواجب عليهم إطلاق تشكيل سياسي يمثل المنطقة، ويسعى للخروج بها من الأوضاع الراهنة". وتضمّن البيان التأسيسي لـ"الهيئة السياسية لدير الزور" عدة بنود، أكدت على استقلالية التشكيل الجديد وعدم تبعيته، وحق تقرير الشعب مصيره من دون إملاء خارجي، ووحدة الأراضي السورية واستقلالها، بالإضافة إلى رفض عودة النظام إلى ريف دير الزور الواقع تحت سيطرة "قوات سورية الديمقراطية"، والتهميش الذي تمارسه "الإدارة الذاتية" بحق المكون العربي. وفتح القائمون على الهيئة الجديدة الباب أمام انتساب أبناء المنطقة إليها، مشيرين إلى أنها بعيدة عن أي طرح أيديولوجي، وهي مؤسسة مدنية سياسية تعتمد العمل السياسي الجماعي السلمي، فضلاً عن ضمها لعدة تيارات فكرية.
تضم محافظة دير الزور عدداً من أهم آبار وحقول النفط والغاز في سورية
ويأتي تشكيل هذه الهيئة في خضم حراك سياسي وتنافس بين عدة أطراف على منطقة شرقي نهر الفرات التي تسيطر عليها "قسد"، التي تشكل "الوحدات" الكردية ثقلها الرئيسي، خصوصاً لجهة القيادة والتوجيه. ومن الواضح أن هناك تخوفاً من المكون العربي، الذي يشكل غالبية سكان شرقي الفرات، من تهميش وإقصاء جديد، ربما يحول دون مشاركتهم في تحديد مصير هذه المنطقة الغنية بالثروات، والتي يتنافس الروس والأميركيون والأتراك من أجل فرض الوصاية عليها من خلال أطراف سورية، حيث تدعم موسكو النظام، وواشنطن "قسد"، وأنقرة فصائل المعارضة السورية. وأشار مدير مركز "الشرق نيوز" فراس علاوي، لـ"العربي الجديد"، إلى أن الهدف من تشكيل الهيئة هو تأطير الحراك السياسي في المنطقة، من خلال اختيار أناس قادرين على قيادة الحوار وإدارته مع شيوخ العشائر، ومع "قوات سورية الديمقراطية"، والتحالف الدولي، موضحاً أن هناك رسالة واضحة للجانب الأميركي والتحالف الدولي عموماً، مفادها أن هناك ناشطين سياسيين قادرين على إدارة ريف دير الزور بشكل أفضل.
ومرت دير الزور بتحولات كبرى، حيث سيطر "الجيش السوري الحر" على أغلبها في العام 2013، ثم انتزع تنظيم "داعش" المحافظة، باستثناء قسم من مدينة دير الزور ومطارها العسكري، والذي ظل محاصراً من التنظيم لأكثر من عامين، ما تسبب في معاناة إنسانية لعشرات آلاف المدنيين داخل المدينة. وتعد دير الزور الواقعة في الشرق السوري واحدة من كبريات المحافظات السورية لجهة المساحة، التي تبلغ نحو 33 ألف كيلومتر مربع. ويحدها من الشرق العراق، بينما تتاخمها محافظة الحسكة شمالاً، والرقة غرباً، والبادية السورية جنوباً، حيث يتبع جزء كبير من هذه البادية إدارياً لدير الزور. ويشطر نهر الفرات محافظة دير الزور من الوسط، وهو ما جعل منها محافظة زراعية بامتياز، حيث كانت واحدة من أهم السلال الغذائية للسوريين. كما أن محافظة دير الزور تضم عدداً من أهم آبار وحقول النفط والغاز في سورية، لعل أهمها العمر، وهو أكبر الحقول النفطية في سورية، ويقع على بعد 15 كيلومتراً شرق بلدة البصيرة بريف دير الزور، وظل لسنوات تحت سيطرة تنظيم "داعش" قبل أن تسيطر عليه "قسد" المدعومة من قبل الولايات المتحدة، في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2017. وأقام التحالف، بقيادة واشنطن، قاعدة كبيرة داخل مباني الحقل من أجل حماية مجمل حقول النفط في شرق سورية. وإضافة إلى العمر، تضم محافظة دير الزور حقول التنك، والورد، والتيم، والجفرة، وكونيكو (يضم أكبر معمل لمعالجة الغاز في سورية)، والتي تقع هي الأخرى تحت سيطرة "قسد".
عانت دير الزور من قلة الخدمات والمشاريع الكبرى التي توفر فرص عمل
وتوضح نظرة على دير الزور أن المحافظة باتت مقسمة إلى قسمين، جنوب نهر الفرات وهي المنطقة التي تُعرف بـ"الشامية"، والتي يسيطر عليها منذ أواخر 2017 النظام والإيرانيين الذين فرضوا سيطرة مطلقة على المنطقة التي تمتد من الميادين إلى البوكمال على الحدود السورية العراقية، بينما يسيطر النظام على مدينة دير الزور مركز المحافظة. ويضم القسم الذي يقع تحت سيطرة النظام والإيرانيين بلدات كانت حاضنة للثورة، منها الموحسن والغورية والعشارة. وفي المقابل، تسيطر "قوات سورية الديمقراطية" على المنطقة شمال النهر، والتي تعرف بـ"الجزيرة"، وتضم عدة بلدات كبيرة منها البصيرة وهجين، وبلدات عشيرة الشعيطات وهي الحمام والغرانيج والكشكية.
وبيّنت مصادر محلية، لـ"العربي الجديد"، أن عدد سكان المحافظة كان يبلغ في عام 2011 نحو مليون ونصف المليون، مشيرة إلى أن عدداً كبيراً منهم هاجر أو نزح منذ استيلاء "داعش" على المنطقة في 2014، وارتكابه مجازر بحق معارضيه. وأشارت إلى أن دير الزور شهدت موجات نزوح أثناء محاربة التنظيم في 2017، حيث نزح أغلب سكان ريفها الشرقي هرباً من قوات النظام والمليشيات الإيرانية باتجاه مناطق سيطرة "قسد"، موضحة أن من تبقّى من أهل المحافظة يعيشون ظروفاً معيشية خانقة، حيث تنعدم الخدمات في كل المحافظة، وهو ما أدى إلى خروج تظاهرات احتجاجية في منطقة نفوذ "قسد" أخيراً. وأوضحت أن "الميلشيات الإيرانية تعمل على تغيير هوية المنطقة التي تقع تحت سيطرتها في ريف دير الزور الشرقي، من خلال دفع السكان لاعتناق المذهب الشيعي ترغيباً وترهيباً"، مشيرة إلى أن الإيرانيين أقاموا قواعد كبرى في هذا الريف، منها "الإمام علي"، موضحة أنه لا يمكن القول إن الجزء الذي يقع تحت سيطرة الإيرانيين "سورياً". وقالت "تحوّل هذا الريف إلى ما يشبه المنطقة الإيرانية من كافة النواحي".
يشار إلى أن حافظ الأسد همش، منذ توليه السلطة في عام 1970، عدة محافظات لأسباب متعددة، لعل أبرزها دير الزور التي عانت من قلة الخدمات والمشاريع الكبرى التي توفر فرص عمل، ما دفع عدداً كبيراً من أهلها للخروج منها، خصوصاً باتجاه محافظات أخرى، منها دمشق، أو للعمل في دول الخليج، خصوصاً الكويت. وعن أسباب تهميش دير الزور، أوضح فراس علاوي أن أغلب المعارضين لحافظ الأسد، قبيل تسلمه السلطة بانقلاب عسكري، سواء مدنيين أو عسكريين، كانوا من محافظة دير الزور، ومنهم رئيس الوزراء يوسف زعيّن، الذي كان يرأس حكومة تضم 6 وزراء من محافظة دير الزور، منهم وزير الداخلية، وكلهم كانوا في التيار المقابل لتيار حافظ الأسد الذي كان وزير دفاع في حكومة الزعيّن. وأشار إلى أن حافظ الأسد لم يزر محافظة دير الزور طيلة فترة وجوده في السلطة، موضحاً أن عدداً من الضباط المتحدرين من المنطقة حاولوا أكثر من مرة الانقلاب على حكم حزب "البعث" قبل وبعد استلام الأسد للسلطة، أبرزهم جاسم علوان الذي فشل انقلابه في 1963. ودير الزور من المحافظات السورية التي لا تضم إلا المكون العربي المنتمي إلى قبائل عريقة، منها البقارة والعقيدات والجبور، وسواها من القبائل العربية. وكانت المحافظة السباقة إلى إعلان الثورة على النظام في عام 2011، ما عرّضها إلى حملات عسكرية من قبل قواته، التي دمرت عشرات الأحياء في مدينة دير الزور، وهدمت جسر المدينة المعلق فوق نهر الفرات الذي أقامه الفرنسيون في عشرينيات القرن الماضي، وكان من الجسور النادرة على مستوى العالم.