دون كيخوته بحسب تيري غيليام: من قتل الفارس؟

06 مارس 2019
"الرجل الذي قتل دون كيخوته" لتيري غيليام (فيسبوك)
+ الخط -
"الرجل الذي قتل دون كيخوته" لتيري غيليام (1940) فيلمٌ عن حبّ السينما، وعن جحيم صناعة فيلم متميّز أيضًا. فالمخرج داخل الفيلم (آدام درايفر) يرغب في التخلّص من الـ"كليشيهات"، ولا يريد مؤثّرات بصرية، ولا ممثّلين محترفين. يُصرّ المنتج على الالتزام الحرفي بالسيناريو، بينما المخرج يريد قليلاً من الارتجال للاستكشاف. إنه مخرج عملي، يتسلّم السيف من الفارس (جوناثان برايس)، ليُريه كيف يطعن به، فتنتقل إليه عدوى الفروسية.
يبدو أن الفارس يمشي على رأسه، لذا يرى الأمور مشوّهة. لاقتباس رواية "دون كيخوته" لميغيل دي ثيربانتس، يُجبر المخرج نفسه على سرد اللامنطق. لا يمكن لمن يقتبس هذه الرواية أن يكون جادًا تمامًا. يحتاج إلى وهم كبير، وإلى جنون أيضًا، فالجنون مدخلٌ إلى العجائبيّ، لكن العجائبيّ غير منفلت، لذا لا يتجاهل المرحلة التاريخية.

فيلم تيري غيليام مركّب. سمح تصوير فيلم عن فيلم. تجنّب اعتماد سرد خطي تراكمي، استُبدِل بالتركيز على أهم اللحظات في حياة الفارس. هكذا صار إنجاز الفيلم فرصة للمخرج لعرض تصوّره عن السينما، كما كانت الرواية فرصة لثيربانتس لعرض مفهومه للرواية، ومناهج كتابتها.
الوهم المهيمن والمعلوم للمتفرّج أقوى من السيناريو الذي يُصوِّر. وهم يُزيل الحدود بين الواقعيّ والمتخيّل. مثلاً: يتقمّص الممثل دور الفارس، ولا يعرف كيف يتوقّف بعد أن يصرخ المخرج: "كات"، لشدّة تعمّقه واندماجه بالدور، فالممثل الفارس يعتبر المخرجُ تابِعَه سانشو. هكذا أصيب المخرج بعدوى جنون دون كيخوته، وتأثّر ببطله في حياته الشخصية. يتصادم مع المنتجين لإنقاذ فيلمه بحسب تصوّره، كما سبق للفارس وقاتل من أجل حبيبته.



قرّر المخرج التصوير في إسبانيا ليكون المكان مُلهِمًا. يُعاين الأمكنة بدراجة نارية، لكنه يكتشف أنه يفتقر إلى الإلهام. الحلّ؟ يركب حمارًا ليفهم الفارسَ بطريقة أعمق. يعيش المخرجُ الروايةَ من داخلها، كي يقتبسها بشكل أفضل. لاقتباس رواية، يحتاج كلّ مخرج إلى فهم الفهم، أي الـ"هرمينوطيقا".
أحداث الرواية المقتَبسة معلومة للمتفرج. سبق اقتباسها في الفن التشكيلي والسينما. الحكاية جاهزة، وعلى المخرج أن يصنع لها "صلْصة" سينمائية ذات شكل وطعم غير مسبوقين. "صلْصة" لطبخ سمكة كبيرة، هي شخصية دون كيخوته، التي تمزج الواقع بالخيال، بحِرَفية مزج الحليب بالماء. شخصية لا تميّز بين البردعة والسرج. شخصية ذات أبعاد ساخرة، تنبع من التناقض بين نوايا الفارس المُعلَنة وواقعه، فهو الذي تهاجمه الثيران والخنازير، ويرى نفسه شجاعًا يحمي الضعفاء، وهو يخوض المعارك الخاسرة كلّها.

لا تنحصر المفارقة في الحدث بل تشمل الزمن. خرج الفارس في مرحلة ما بعد نهاية عصر الفروسية. عندما ضعفت ذراعه، كان في الـ50 من عمره فقط. فات زمنه، وهو يريد تغيير زمنه. سمة دون كيخوته أنه مستعد للمنازلة دفاعًا عمّا يقول، بغض النظر عن ميزان القوى السائد. لا يُساوم، بينما سائس حصانه براغماتي يأخذ الزمن على علاّته. يتكيّف مع الوضعيات كلّها، فالمهم أن يتزايد عدد الحمير التي يملكها. بينما يُفكّر الفارس في كتابة رسالة لحبيبته، يريد سانشو منه أن يكتب له رسالة تنازل عن الحمير الصغار. يعلن سانشو: "إما أن نكون أو لا نكون". يكفي سانشو فخرًا أن شكسبير سرق منه الجملة الشهيرة لينطقها الأمير المتردّد هاملت (صدرت الرواية والمسرحية في الفترة نفسها، فالأولى صدرت بجزئين عامي 1605 و1615، بينما المسرحية صدرت قبلهما، أي عام 1603). يتشابه هاملت ودون كيخوته في أن الخياليّ أوضح لديهما من الواقعيّ، مع فرق أن الأمير ينوي معاقبة عمّه، بينما الفارس يهاجم طواحين الهواء.

بهذ السخرية المريرة، يُقيَّد المخرج في صنع "الصلْصة" التي يريد، لأن رواية ثيربانتس تفرض أسلوب اقتباسها وإخراجها لكونها مُشبعة بأجواء الـ"باروك" والفولكلور، وفيها تناقضات شديدة ومَشاهد مسرحية مركّبة. مفارقات تجعل الفارس شخصيةً محورية. لاحظ الناقد الأدبي تزفتان تودوروف أن الأدب الغربي تميّز، منذ دون كيخوته، بزيادة وزن الشخصية، حتى صارت "عناصر السرد الأخرى تنتظم انطلاقًا منها". لدى ثيربانتس وعي حاد بتميّز الشخصية التي يقدِّمها، لذلك يسخر دون كيخوته من شخصية مزيّفة تتقمّص بطولات الفارس. يسجل ثيربانتس أن الحكاية الشخصية الأخرى المنافسة لا اختراع فيها، وفقيرة الأسلوب، وبائسة في وصف الإشارات، وغنيّة بالترّهات.

تتعمّق الشخصية بالمفارقات، بين مثالية الفارس العمياء والبراغماتيّة القذرة لراكب الحمار. لكنها مفارقات، والعالم العجائبيّ لا يقفز على مرحلته التاريخية، في الرواية كما في الفيلم. في هذا التزامٌ بقول ثيربانتس "إن الخرافات تكون أحسن وأمتع كلّما ازدادت قربًا من الحقيقة". إحدى الحقائق: هناك من الماضي أندلسيون متنكرون في أشكال مسيحيين، كي لا يُطرَدوا من الأندلس؛ ومن الحاضر، هناك مغاربة يعودون إلى الأندلس في "زيّ" إرهابيين. لربط الزمنين أحدهما بالآخر، تظهر طواحين العصور الوسطى إلى جانب آلات توليد الكهرباء. هكذا تلتبس الصورة، ويختلط الماضي والحاضر.

المغرب حاضرٌ بقوّة في الرواية والفيلم معًا، عبر موريسكية عائدة إلى إسبانيا متنكّرة. في الرواية، ينقل ثيربانتس عن راوٍ مغربي يُغضب دون كيخوته لأنه (الراوي) حقود لا يمكنه تمجيد الفارس الجوّال، فهو راوي مغربي. حتى سانشو يسخر من المغاربة، لأنهم يحبّون الباذنجان.
من جهته، يعيش مخرج الفيلم المتخيّل مَشاهد عاشها دون كيخوته. حماقات الفارس وسيلة لتسلية الجمهور. في الفيلم، المُنتج مُبتهِج ويضحك بعمق أثناء التصوير. يتسلّى الغني بحماقة دون كيخوته. يصفِّق الحاضرون لأن حماقات الغنيّ يعتبرها الناس حكمة، حسب ثيربانتس. لكن، ما يُبهج المنتج والجمهور يُزعج المخرج الذي تطابق مع سانشو. مُخرجٌ تقمّص شخصية سانشو لفهم بطله، لأن البطل جزءٌ من روح المخرج، وليس مجرد بيدق أمام الكاميرا. وحده سانشو يفهم الفارس. الفهم والاقتباس ليسا معطى، بل حفر مضني لإدراك المعاني. لا يمكن لمن يريد اقتباس رواية ثيربانتس أن ينجح إن لم يَصِرْ سانشو. من يحتقر راكب الحمار لن يفهم راكب الفرس. المعنى الأساس الذي يعرفه سانشو أن الفارس لم يقتله أحدٌ، بل ذلّ الهزيمة.
دلالات
المساهمون