29 أكتوبر 2024
دونالد يسرق فرحة إسرائيل بفوز ترامب
على الرغم من التصفيق الطويل الذي قوبل به خطاب دونالد ترامب، خصوصا تعهده بعدم حصول إيران على سلاح نووي، وعلى الرغم من الوعود التي قطعها الرئيس الأميركي على نفسه بضمان تفوق إسرائيل النوعي على جيرانها، فإن ذلك، وغيره من التطمينات والالتزامات المعلن عنها أمام مستمعيه في القدس، لم تقلل من خيبة أمل إسرائيل، ولم تبدّد حالة القلق التي استبدّت بها، جرّاء مشاهد الحفاوة الغامرة ومظاهر الاستقبال الأسطورية المنقولة بالصوت والصورة من الرياض، إبّان سلسلة القمم الأميركية السعودية الخليجية العربية الإسلامية.
استدراكاً لأي سوء فهم محتمل، ينبغي القول إن إسرائيل لم تكن قلقةً على مصيرها، بعد زيارة دونالد ترامب الرياض، وعقده أكبر صفقة من نوعها في التاريخ، وإنما كانت قلقة على دورها الجيواستراتيجي، وعلى مكانتها المميزة على سلم الأفضليات الأميركية، ناهيك عن خشيتها من دفع أثمان باهظة، وتقديم استحقاقات عاجلة كانت تناور لتأجيل دفعها، لقاء قبولها عضواً في المعسكر المناهض لإيران، وانضمامها طرفاً فاعلاً في الحرب الدولية ضد الإرهاب بمفهومه الأميركي الواسع.
وبالعودة إلى السياق، استقبلت إسرائيل دونالد ترامب آخر، غير ذلك المرشح الفائز في الانتخابات التي أفرزت رئيساً أسرف في صرف الوعود للإسرائيليين بالجملة والمفرّق، إلى الحد الذي بدا فيه القادم من عالم رجال الأعمال، وكأنه النبي المخلص، أو هدية الرب للمستوطنين، ممن راهنوا على أن أول قرار تنفيذي سيتخذه ترامب سيكون قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ثم الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية بلا قيد ولا شرط، وبالتالي وأد فكرة الدولة الفلسطينية إلى الأبد.
كانت زيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، وما رافقها من تخلٍّ أميركي عن حل الدولتين، مناسبة أخرى لرفع سقف التوقعات الاسرائيلية من الرئيس عديم الخبرة السياسية، الأمر الذي دفع غلاة اليمينيين والمستوطنين إلى اهتبال الفرصة السانحة، للمطالبة بضم المستوطنات الكبرى، لا سيما في محيط القدس، وانتزاع موافقة أميركية عاجلة على اعتبار الجولان جزءًا من الأراضي
الإسرائيلية، فضلاً عن شطب القضية الفلسطينية من على جدول الاهتمامات الدولية بصورة نهائية. إلا أن العتمة الأميركية لم تأت على قدّ هوى يد السارق الإسرائيلي، بعد أن استوعبت "المؤسسة" الأميركية تفلتات لسان القادم من عالم العقارات، وهذّبت من مواقفه وتصريحاته العشوائية، بما في ذلك انجرافه نحو أقصى الطموحات الإسرائيلية، حيث بدأ دونالد ترامب سلسلة طويلة من التراجعات عن وعوده السابقة، كما بدا أيضاً أكثر اتساقاً مع خطاب رجل الدولة، إلى أن انتهى به الأمر في قمم الرياض، رئيساً أميركياً يعي مسؤوليات بلاده إزاء أقدم الصراعات وأعقدها في الشرق الأوسط.
يمكن اعتبار زيارة دونالد ترامب السعودية، كسابقة غير مسبوقة في أول زيارة خارجية له، بداية تحول طفيفٍ في توجهات الرئيس الأميركي الجديد، الذي أخذ يربك الحسابات الإسرائيلية، ويقضم من الآمال التي بلغت سقف السماء لدى المعولين على تصرفاته الانفعالية، المحابية للذين قال لهم، غداة امتناع واشنطن عن التصويت ضد قرار مجلس الأمن الدولي الشاجب للمستوطنات، "اصبري يا إسرائيل، دونالد ترامب قادم إلى البيت الأبيض قريباً"، الأمر الذي اعتبر في حينه بمثابة بشرى للغارقين في أوهام التوسع الاستيطاني، وتأبيد الاحتلال الإسرائيلي.
وهكذا اتضح أن الرئيس دونالد هو غير المرشح ترامب، فيما راحت علامات استفهام كبيرة ترتسم في الأفق الإسرائيلي، وأخذت مظاهر الارتباك تبدو أكبر من بشائر احتفال إسرائيل بفوز الرئيس متقلب المزاج، خصوصاً بعد اتضاح حقيقة أن على الدولة العبرية أن تدفع بالعملية السياسية الفلسطينية، شرطاً للانخراط في المعسكر الإقليمي المناهض لإيران، وهو ما لاحظه أحد المختصين بالشأن الإسرائيلي، حين قال "إن إسرائيل بدأت تتصبب عرقاً".
وكان دونالد ترامب قد بدأ خطواتٍ متدرجةً على طريق المراجعات السياسية، قبل أن يصل إلى الرياض، حيث شطب عن نفسه صورة الرئيس الأميركي المعادي للإسلام والمسلمين، والمسيح المخلص بالنسبة لإسرائيل، فيما راح، في المقابل، يعول على صورته صانع سلام، ويعد بتحقيق إنجاز فشل فيه كثيرون، وفوق ذلك يستقبل رئيس منظمة التحرير، محمود عباس، في المكتب البيضاوي، ويعدّل من موقفه العدمي إزاء خيار حل الدولتين، وتعلن أوساط مستشاريه (ماكماستر مثلاً) اعتراف أميركا بحق تقرير المصير للفلسطينيين، فضلاً عن المطالبة بلجم البناء في المستوطنات، وتأجيل قرار نقل السفارة إلى القدس.
كانت ذروة القلق قد تبدت لدى قيادات إسرائيل، مع بدء الزيارة التي قام بها ترامب إلى الرياض، وما صاحبها من عقد صفقة أسلحة بقيمة 110 مليار دولار، قيل إنها تساوي كل ما قدمته أميركا لإسرائيل على مرور الزمان، وفيها معدّات حربية اكثر تطوراً مما لدى الدولة المتفوقة على جيرانها العرب، الأمر الذي أثار مزيداً من الارتيابات إزاء نيات الرئيس الأميركي، وفاقم من حدة الأسئلة المكتومة والمتفشّية لدى الإسرائيليين الذين كانوا يخشون من إثارة نزق ترامب، إذا ما أبدوا اعتراضهم التقليدي على تسليح العرب بأحدث التكنولوجيا العسكرية.
ثم جاءت زيارة الرئيس الأميركي إسرائيل، كي تسرق كل ما قد تبقى لديها من فرحة بنجاح
ترامب الانتخابي، حيث بدت هذه الزيارة كأنها ملحقة بالزيارة الأهم للرياض، كما تخللها كل ما يدعو إلى التطيّر مما حفل به برنامج الرئيس الضيف من منغصّات، كان من بينها عدم اعتراف الضيف بسيادة إسرائيل على القدس، بما في ذلك الحائط الغربي (البراق)، وإصراره على الذهاب منفرداً إلى ما يعتبره الإسرائيليون قدس أقداسهم (المبكى)، ناهيك عن تغيّر لهجة الرئيس ومساعديه حول "الضفة الغربية المحتلة"، وعن أهمية صنع السلام ممراً إجبارياً لحل كل الصراعات في المنطقة، وإقامة "حلف الشرق الأوسط الاستراتيجي".
صحيح أن إسرائيل لم تظهر كل ما لديها من قلق وانزعاج إزاء مثل هذه التحولات الطفيفة في موقف الرئيس الأميركي الجديد، بل كانت حريصةً على الترحيب به من دون أي منغصات، إلا أنها لم تستطع أن تداري على خيبة أملها العميقة إزاء ما قد تسفر عنه سياسة دونالد ترامب، في المستقبل المنظور، من تحولاتٍ قد يصعب كبح جماحها، إذا ما استكمل فريق ترامب رؤيته لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، شرطاً لإدماج الدولة العبرية في المنظور الأميركي الجديد للشرق الأوسط، وما يقتضيه ذلك من استحقاقاتٍ على إسرائيل دفعها من دون تأخير إضافي، بما في ذلك إنهاء التوسع الاستيطاني، والكف عن تهويد الضفة الغربية، وتفتيت المجتمع الفلسطيني.
استدراكاً لأي سوء فهم محتمل، ينبغي القول إن إسرائيل لم تكن قلقةً على مصيرها، بعد زيارة دونالد ترامب الرياض، وعقده أكبر صفقة من نوعها في التاريخ، وإنما كانت قلقة على دورها الجيواستراتيجي، وعلى مكانتها المميزة على سلم الأفضليات الأميركية، ناهيك عن خشيتها من دفع أثمان باهظة، وتقديم استحقاقات عاجلة كانت تناور لتأجيل دفعها، لقاء قبولها عضواً في المعسكر المناهض لإيران، وانضمامها طرفاً فاعلاً في الحرب الدولية ضد الإرهاب بمفهومه الأميركي الواسع.
وبالعودة إلى السياق، استقبلت إسرائيل دونالد ترامب آخر، غير ذلك المرشح الفائز في الانتخابات التي أفرزت رئيساً أسرف في صرف الوعود للإسرائيليين بالجملة والمفرّق، إلى الحد الذي بدا فيه القادم من عالم رجال الأعمال، وكأنه النبي المخلص، أو هدية الرب للمستوطنين، ممن راهنوا على أن أول قرار تنفيذي سيتخذه ترامب سيكون قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ثم الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية بلا قيد ولا شرط، وبالتالي وأد فكرة الدولة الفلسطينية إلى الأبد.
كانت زيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، وما رافقها من تخلٍّ أميركي عن حل الدولتين، مناسبة أخرى لرفع سقف التوقعات الاسرائيلية من الرئيس عديم الخبرة السياسية، الأمر الذي دفع غلاة اليمينيين والمستوطنين إلى اهتبال الفرصة السانحة، للمطالبة بضم المستوطنات الكبرى، لا سيما في محيط القدس، وانتزاع موافقة أميركية عاجلة على اعتبار الجولان جزءًا من الأراضي
يمكن اعتبار زيارة دونالد ترامب السعودية، كسابقة غير مسبوقة في أول زيارة خارجية له، بداية تحول طفيفٍ في توجهات الرئيس الأميركي الجديد، الذي أخذ يربك الحسابات الإسرائيلية، ويقضم من الآمال التي بلغت سقف السماء لدى المعولين على تصرفاته الانفعالية، المحابية للذين قال لهم، غداة امتناع واشنطن عن التصويت ضد قرار مجلس الأمن الدولي الشاجب للمستوطنات، "اصبري يا إسرائيل، دونالد ترامب قادم إلى البيت الأبيض قريباً"، الأمر الذي اعتبر في حينه بمثابة بشرى للغارقين في أوهام التوسع الاستيطاني، وتأبيد الاحتلال الإسرائيلي.
وهكذا اتضح أن الرئيس دونالد هو غير المرشح ترامب، فيما راحت علامات استفهام كبيرة ترتسم في الأفق الإسرائيلي، وأخذت مظاهر الارتباك تبدو أكبر من بشائر احتفال إسرائيل بفوز الرئيس متقلب المزاج، خصوصاً بعد اتضاح حقيقة أن على الدولة العبرية أن تدفع بالعملية السياسية الفلسطينية، شرطاً للانخراط في المعسكر الإقليمي المناهض لإيران، وهو ما لاحظه أحد المختصين بالشأن الإسرائيلي، حين قال "إن إسرائيل بدأت تتصبب عرقاً".
وكان دونالد ترامب قد بدأ خطواتٍ متدرجةً على طريق المراجعات السياسية، قبل أن يصل إلى الرياض، حيث شطب عن نفسه صورة الرئيس الأميركي المعادي للإسلام والمسلمين، والمسيح المخلص بالنسبة لإسرائيل، فيما راح، في المقابل، يعول على صورته صانع سلام، ويعد بتحقيق إنجاز فشل فيه كثيرون، وفوق ذلك يستقبل رئيس منظمة التحرير، محمود عباس، في المكتب البيضاوي، ويعدّل من موقفه العدمي إزاء خيار حل الدولتين، وتعلن أوساط مستشاريه (ماكماستر مثلاً) اعتراف أميركا بحق تقرير المصير للفلسطينيين، فضلاً عن المطالبة بلجم البناء في المستوطنات، وتأجيل قرار نقل السفارة إلى القدس.
كانت ذروة القلق قد تبدت لدى قيادات إسرائيل، مع بدء الزيارة التي قام بها ترامب إلى الرياض، وما صاحبها من عقد صفقة أسلحة بقيمة 110 مليار دولار، قيل إنها تساوي كل ما قدمته أميركا لإسرائيل على مرور الزمان، وفيها معدّات حربية اكثر تطوراً مما لدى الدولة المتفوقة على جيرانها العرب، الأمر الذي أثار مزيداً من الارتيابات إزاء نيات الرئيس الأميركي، وفاقم من حدة الأسئلة المكتومة والمتفشّية لدى الإسرائيليين الذين كانوا يخشون من إثارة نزق ترامب، إذا ما أبدوا اعتراضهم التقليدي على تسليح العرب بأحدث التكنولوجيا العسكرية.
ثم جاءت زيارة الرئيس الأميركي إسرائيل، كي تسرق كل ما قد تبقى لديها من فرحة بنجاح
صحيح أن إسرائيل لم تظهر كل ما لديها من قلق وانزعاج إزاء مثل هذه التحولات الطفيفة في موقف الرئيس الأميركي الجديد، بل كانت حريصةً على الترحيب به من دون أي منغصات، إلا أنها لم تستطع أن تداري على خيبة أملها العميقة إزاء ما قد تسفر عنه سياسة دونالد ترامب، في المستقبل المنظور، من تحولاتٍ قد يصعب كبح جماحها، إذا ما استكمل فريق ترامب رؤيته لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، شرطاً لإدماج الدولة العبرية في المنظور الأميركي الجديد للشرق الأوسط، وما يقتضيه ذلك من استحقاقاتٍ على إسرائيل دفعها من دون تأخير إضافي، بما في ذلك إنهاء التوسع الاستيطاني، والكف عن تهويد الضفة الغربية، وتفتيت المجتمع الفلسطيني.
دلالات
مقالات أخرى
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024
08 أكتوبر 2024