دولة مدنية أم نظام ديمقراطي؟

30 مارس 2014

مظاهرة مصرية ترفض حكم العسكر

+ الخط -

من المصطلحات الغامضة التي راجت أخيراً في اللغة العربية (الدولة المدنية). ولو سألتَ واحداً ممن يستخدمون التعبير عن معناه، لأجابك، بلا تردد، إنها الدولة التي يطمح إلى إقامتها، و/أو هي غاية ثوار الربيع العربي. تسمع المصطلح في سورية ومصر ولبنان، وتقرؤه في صحف واسعة الانتشار، لكن أكثر ما يشد الانتباه في شيوعه هو لَبسه البيّن. فيه من الغموض ما يرجح ظنوني في أنه سيغدو، مع التداول المتسارع الذي نشهده اليوم، مصدراً ممكناً لكل سوء تواصل. والحقيقة أَن ما يبعث على التساؤل يتصل بحقيقة مثيرة، هي حضور المصطلح بكثافة لدينا، نحن العرب، وغيابه شبه الكلي لدى غيرنا. 

ليس مستغرباً أن يكون سبب انتشار مصطلح (الدولة المدنية) أنه خلو من كل تحديد، وأن غموضه يلبي تلك الوظيفة السياسية التي تتوخى إيصال معنىً، يُجافي المعنى الذي توحي به العبارةُ. فالدولة لا يمكن أَن تكون مدنية، أو عسكرية، أو دينية، أو ما شابه من النعوت الممكنة. إنها إِما أن تكون دولةً، من غير أية إضافة، أو لا تكون أبداً. أما الذي يمكن أن يكون مدنياً أو عسكرياً أو غير ذلك فهو السلطة السياسية الثاوية في الدولة، وهي الهيئة الحاكمة، وكيفية تحكمها في هذه السلطة. هي الحكومة التي تمسك بالسلطة السياسية التي قد تكون عسكرية، أو مدنية، أو دينية، أو غير ذلك.

 فلماذا هذا الجّمع النشاز لمفهومي المدني والدولة في توليفة واحدة؟ وما المقصود بالدولة المدنية؟ لا يتردد مستخدمو المصطلح لدينا عن زرع الوهم الجميل بأن (الدولة المدنية) هي دولة العصر الجميل القادم، بيد أن لَبس المصطلح يكمن، بالضبط، في أن المراد منه أن يكون سياسياً، بينما يتعذر، من خلاله التوصل إلى تصور واضح لأهداف العمل السياسي. أليس من الممكن، مثلاً، أَن تجمع السلطةُ في الدولة بين صفتي المدنية والاستبداد، من غير أي تناقض؟

مصطلح (الدولة المدنية) مبتكر، إذن. وهو، مثل كل ابتكار اجتماعي، يعبر عن حاجةٍ فعليةٍ في بورصة الأفكار السياسية، وربما عن وظيفةٍ يراد منه أَن ينجزها. ليس معنى (الدولة المدنية)، إذن، هو ما يجدر التساؤل بشأنه، بل مساءَلة الطلب عليه، أي الحاجة الموضوعية، أَو السياسية، لمثل هذا المفهوم الملتبس، وعن معاني اللجوء إليه، من ناحية، وعن الحامل الاجتماعي له، من ناحية ثانية. فلماذا يلجأ بعض العرب إلى مفهومٍ، لا تعيين له في هذه المرحلة من تاريخهم؟ ولئن كنا في حاجةٍ، من ناحية نظريةٍ على أقل تقدير، إلى لغة واضحة، بها نستطيع سَبْر العالم، وتحديد معالم الطريق والمستقبل الذي إليه نتطلع، فلماذا، وكيف ينتشر، إذن، مفهوم على هذا القدر من اللبس، بمثل هذه السرعة غير المسبوقة؟

لكن قضية المصطلح ليست لغوية، بل سياسية في المقام الأول. ذلك أَن السياسة مرتبطة، بالضرورة، بإدارة التوترات، وتعددية الاجتماع البشري، وبسيرورات الحياة وتناقضات التاريخ. ولكن، لا تعير اللغة السائدة أي اهتمام بالتناقضات الفاحشة التي تنطوي عليها. وأَفترض أن اللغة ليست مركزية في هذا السياق، إلا لأنها تتكشف عن مقدار التخبط المستفحل في الثقافة السياسية، المنتشرة اليوم في بلاد العرب. 

هكذا، يمكن القول إن المشكلة لا تكمن في المصطلح، بل في نفور بعضهم من تحديد معناه، في الوقت الذي يصرون على استخدامه بكثافة، أَي في الوظيفة السياسية المتوخاة منه. فإن كنا بحاجة إلى لغة واضحة، لسَبر العالم ولتحديد معالم الطريق والمستقبل الذي إليه نتطلع، فلماذا، وكيف ينتشر، إذن، مفهوم على هذا القدر من اللبس، بمثل هذه السرعة غير المسبوقة؟ وكيف يمكن أَن نفسر لماذا يلجأ "رفاق"، كانوا، بالأمس القريب، يغرّدون بفضائل الديمقراطية، إلى مصطلح لا يوفر أي دعم للقضية التي يزعمون أنها أولوية بالنسبة لهم، وهي قضية الديمقراطية؟

لا يكون الجواب على الأزمة، بالتهرب منها، بل بمواجهتها، وبتحديد القضية المركزية التي من أجلها أشعل الناس الثورة، وهي قضية الحرية والديمقراطية والعدل. وهو لا يكون بخلط المفاهيم، فالدولة هي إطار الهوية الجمعية، وقاعدة تعرُّف هذه الأخيرة على نفسها. ويتعذر تحديد الدولة بغير "هوية" إقليمها. إنها تكون سورية أَو فرنسية أو فلسطينية. وكنت ميّزت في كتابي (العطب والدلالة) بين الدولة، وهي "وعاء" السياسة وموطن السلطة، والحكومة التي تمسك بالسلطة السياسية الثاوية في الدولة، ويمكن أن تكون هذه الأخيرة مدنية أو دينية، أو غير ذلك.

إن كان مستخدمو مصطلح (الدولة المدنية) يعنون به الاجتماع السياسي على أسس ديمقراطية، فلم لا يستخدمون العبارة الأصل؟ ولماذا يتحاشون الكلمة، وهي أدلُّ على المعنى وأشد التصاقاً به؟ وإن كانوا يقصدون بتعبير (الدولة المدنية) العَلمانية مقابل الدينية، فاللبس أكبر من غير ريب. ذلك لأن جلّ الذين يُروّجون المصطلح هم ساسة التيار الديني، وخصوصاً في بلدان الربيع العربي. وهم يريدون منا أن نصادق على قولهم إن نظرتهم للعمل السياسي تغيرت، وإنهم يؤمنون بالتعددية، وبتداول السلطة السياسية، وبالشرعية الانتخابية. 

نكرر: إن كان الاجتماع السياسي على أسس ديمقراطية هو المقصود بالقول بـ(الدولة المدنية)، فلماذا يتحاشون الكلمة، ويتهربون منها؟

 

 

A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.