10 نوفمبر 2024
دولة القانون
"القرار المعترض عليه يُسيء بشكل خطير، وغير قانوني، للحريات الأساسية، والتي هي حرية التنقل، وحرية الاعتقاد والحرية الشخصية". هكذا ردّ مجلس الدولة الفرنسي، يوم الجمعة الماضي، على رفض المحكمة الإدارية في مدينة نيس الطعن المقدم من المجتمع المدني الفرنسي، ممثلاً بالرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان والمجلس الفرنسي ضد الرهاب من الإسلام، بخصوص منع ارتداء لباس البحر "البوركيني" الذي ترتديه نساءٌ مسلمات، يعتبرنه حلاً وسيطاً بين التشدّد والانفتاح.
مجلس الدولة، حامي الحريات الأساسية، هو المرجع الأخير القادر على تأكيد القرارات والقوانين الإدارية، أو نقضها، بناءً على معايير واضحة، لها علاقة باحترام الدستور، وكذلك الالتزام بالاتفاقيات الدولية وتعزيز مبادئ الحرية. وعلى الرغم من أن فرنسا تعيش في ظل حالة طوارئ، إلا أن المجلس يبقى ضامناً الالتزام بالقانون، ولا يتأثّر بالمعطيات الآنية.
وكان رفض المحكمة الإدارية الطعن، واعتباره لاغياً، يشكل تدخلاً قضائياً لافتاً، يمكن أن يُفضي إلى تعزيز الخطاب العلمانوي/الشعبوي أو تشديده، وهو يفتح الطريق أمام تمدّدٍ مستمر للتحديدات المرتبطة بالحريات الدينية عموماً، وحريات المسلمين خصوصاً. وما الانخراط في هذا الجدال حول مسألة لباس البحر هذا إلا بادرة مقلقة لفتح المجال أمام العودة إلى السعي نحو منع ارتداء الحجاب في الجامعات، على سبيل المثال لا الحصر.
تشهد الساحة السياسية الفرنسية حالة من الغليان، منذ أيام، حول مسألة لباس البحر هذا، وقد صدرت تصريحاتٌ متناقضةٌ على مستوى الوزراء، وتبين أن هناك خلافات بين بعضهم ورئيسهم إيمانويل فالس. يحاول الأخير جاهداً، منذ مدة، الاقتراب من ناخبي اليمين، ظنّاً منه أن ذلك سيُجدي في جلب بعض الأصوات مع الاقتراب من الانتخابات الرئاسية في السنة المقبلة. ويتبين، بكل وضوح، أن التركيز على هذه الظواهر التي يُفترض أن تكون ثانويةً، وأن لا تُشغل الرأي العام بهذه الحدّة، لم يكن ليتأجّج، إلا بعد العمليات الإرهابية الأخيرة، وفي مدينة نيس تحديداً، حين دهس إرهابي داعشي أكثر من 80 مصطافاً حتى الموت. كما يبدو أن الجريمة التي ذُبِحَ فيها راهب كاثوليكي ساهمت، أيضاً، في خلط الأمور وضياع المنطق، من خلال إسقاط صور نمطية متشددة على مجمل المسلمين من بعض اليمين المتطرّف، وصائدي الأصوات من اليمين ومن اليسار.
وقد نشرت صحيفة بريطانية صوراً تُظهر إجبار رجال الشرطة البلدية في نيس على إجبار
سيدةٍ تضع الحجاب، وتستلقي على الشاطئ بأن تخلعه، أو أن تدفع غرامة وتغادر المكان. أصيب المتعاطفون مع الحركات الجهادية بالذهول، وشعروا بالغبطة وهم يتابعون عمل بلدية فرنسية على الدعاية لأفكارهم، في بعدها الأشد ظلامية. فشعارهم الدائم على وسائل التواصل الاجتماعي: "أخواتكم في الإسلام يهانون في فرنسا"، صار مدعّماً بالصور. وقد انفجرت مواقعهم بهذه الصور المهينة مع تعليقاتٍ تحمل جرعاتٍ عنفية تجاه فرنسا، حكومةً وشعباً. بنى هؤلاء جلّ دعايتهم الظلامية على أنه لا يمكن للمسلم أن يعيش، ويمارس دينه بكرامةٍ في فرنسا.
في المقابل، كانت المواقع المتطرّفة نفسها، وفي بداية الجدل حول الموضوع، تُدين بشدة ذهاب نسوةٍ مسلمات إلى البحر، وارتداءهن لباساً يعتبرنه غير شرعي، وبل أيضاً صنّفوه وكأنه تصالحي مع الحداثة المجتمعية المحيطة. كما أدانوا تماماً، وبناءً على قواعد فقهية اجترحوها، أن تُظهر المرأة جسمها، ولو كانت مرتدية "البوركيني"، وأن تكون محاطةً بنساءٍ عارياتٍ ورجال عراة (بلباس البحر العادي طبعاً). ويُجمع أخصائيو الإعلام المتطرّف، المرتبط بداعش أو بالقاعدة، على أن هذه الصور ستستخدم بشكل محترف، وطوال سنوات، في مقاطع دعائية تروّج مظلومية المسلمين في الغرب، والتي بناءً عليها ستضم المجموعات الإرهابية المتطرفة مزيداً من الشبان والشابات، وربما تنفيذ مزيدٍ من العمليات الإرهابية.
في الوقت الذي يجري فيه الحديث عن الحاجة إلى تقريب وجهات النظر، وبناء الجسور الفكرية والروحية بين مكونات المجتمع الفرنسي المتنوعة، والسعي إلى مواجهة التطرّف والميول الراديكالية لدى شباب المسلمين في هذا المجتمع، وحيث تتعدّد المبادرات الحكومية والمجتمعية في هذا الاتجاه، نرى أن بعض التصرفات الهوجاء، والتي تنم عن رُهابٍ ديني مبطن أو مكشوف، تأتي لتخرّب كل هذه الجهود، ولتعزّز تعقيدات مشكلة الاندماج، وتروّج، بشكل جلي، عملية إقصاء جزءٍ من المجتمع.
إنها الشعبوية الانتخابية، والتي تؤرق المرشحين، وتدفعهم إلى التهافت على إثارة خلافاتٍ حيث لا توجد وامتطاء صهوة الجدل المرهق. يُضاف إليهم العلمانيون الذين يحطمون، بتصرّف أهوج، عمل سنوات من التوعية والإقناع، ونشر الفكر التنويري الذي يقوم به العلمانيون. يثبت هؤلاء "المخربون"، مرة أخرى، "صحّة" التعريف الساذج والخاطئ لمفهوم العلمانية، ويطرحه غلاة المتطرفين الدينيين، والذي يربطها بالإلحاد. كان الأبوان المؤسسان للعلمانية في فرنسا، أستريد بريان وجان جوريس، يخشيان، بالدرجة نفسها، من السلطة الكهنوتية والاستبداد العلمانوي.
ينقض قرار مجلس الدولة الفرنسي، إعلاء مفهوم الحريات الأساسية، كل المقارنات التي انهمك فيها بعض المثقفين العرب، بخصوص تعامل دول إسلامية مستبدّة، مع حقوق من لا يلتزم بقواعدها المتشدّدة. هو في رقابته على احترام الدستور لا يأخذ بالاعتبار ميول زيد أو رغبات عمرو.
وكان رفض المحكمة الإدارية الطعن، واعتباره لاغياً، يشكل تدخلاً قضائياً لافتاً، يمكن أن يُفضي إلى تعزيز الخطاب العلمانوي/الشعبوي أو تشديده، وهو يفتح الطريق أمام تمدّدٍ مستمر للتحديدات المرتبطة بالحريات الدينية عموماً، وحريات المسلمين خصوصاً. وما الانخراط في هذا الجدال حول مسألة لباس البحر هذا إلا بادرة مقلقة لفتح المجال أمام العودة إلى السعي نحو منع ارتداء الحجاب في الجامعات، على سبيل المثال لا الحصر.
تشهد الساحة السياسية الفرنسية حالة من الغليان، منذ أيام، حول مسألة لباس البحر هذا، وقد صدرت تصريحاتٌ متناقضةٌ على مستوى الوزراء، وتبين أن هناك خلافات بين بعضهم ورئيسهم إيمانويل فالس. يحاول الأخير جاهداً، منذ مدة، الاقتراب من ناخبي اليمين، ظنّاً منه أن ذلك سيُجدي في جلب بعض الأصوات مع الاقتراب من الانتخابات الرئاسية في السنة المقبلة. ويتبين، بكل وضوح، أن التركيز على هذه الظواهر التي يُفترض أن تكون ثانويةً، وأن لا تُشغل الرأي العام بهذه الحدّة، لم يكن ليتأجّج، إلا بعد العمليات الإرهابية الأخيرة، وفي مدينة نيس تحديداً، حين دهس إرهابي داعشي أكثر من 80 مصطافاً حتى الموت. كما يبدو أن الجريمة التي ذُبِحَ فيها راهب كاثوليكي ساهمت، أيضاً، في خلط الأمور وضياع المنطق، من خلال إسقاط صور نمطية متشددة على مجمل المسلمين من بعض اليمين المتطرّف، وصائدي الأصوات من اليمين ومن اليسار.
وقد نشرت صحيفة بريطانية صوراً تُظهر إجبار رجال الشرطة البلدية في نيس على إجبار
في المقابل، كانت المواقع المتطرّفة نفسها، وفي بداية الجدل حول الموضوع، تُدين بشدة ذهاب نسوةٍ مسلمات إلى البحر، وارتداءهن لباساً يعتبرنه غير شرعي، وبل أيضاً صنّفوه وكأنه تصالحي مع الحداثة المجتمعية المحيطة. كما أدانوا تماماً، وبناءً على قواعد فقهية اجترحوها، أن تُظهر المرأة جسمها، ولو كانت مرتدية "البوركيني"، وأن تكون محاطةً بنساءٍ عارياتٍ ورجال عراة (بلباس البحر العادي طبعاً). ويُجمع أخصائيو الإعلام المتطرّف، المرتبط بداعش أو بالقاعدة، على أن هذه الصور ستستخدم بشكل محترف، وطوال سنوات، في مقاطع دعائية تروّج مظلومية المسلمين في الغرب، والتي بناءً عليها ستضم المجموعات الإرهابية المتطرفة مزيداً من الشبان والشابات، وربما تنفيذ مزيدٍ من العمليات الإرهابية.
في الوقت الذي يجري فيه الحديث عن الحاجة إلى تقريب وجهات النظر، وبناء الجسور الفكرية والروحية بين مكونات المجتمع الفرنسي المتنوعة، والسعي إلى مواجهة التطرّف والميول الراديكالية لدى شباب المسلمين في هذا المجتمع، وحيث تتعدّد المبادرات الحكومية والمجتمعية في هذا الاتجاه، نرى أن بعض التصرفات الهوجاء، والتي تنم عن رُهابٍ ديني مبطن أو مكشوف، تأتي لتخرّب كل هذه الجهود، ولتعزّز تعقيدات مشكلة الاندماج، وتروّج، بشكل جلي، عملية إقصاء جزءٍ من المجتمع.
إنها الشعبوية الانتخابية، والتي تؤرق المرشحين، وتدفعهم إلى التهافت على إثارة خلافاتٍ حيث لا توجد وامتطاء صهوة الجدل المرهق. يُضاف إليهم العلمانيون الذين يحطمون، بتصرّف أهوج، عمل سنوات من التوعية والإقناع، ونشر الفكر التنويري الذي يقوم به العلمانيون. يثبت هؤلاء "المخربون"، مرة أخرى، "صحّة" التعريف الساذج والخاطئ لمفهوم العلمانية، ويطرحه غلاة المتطرفين الدينيين، والذي يربطها بالإلحاد. كان الأبوان المؤسسان للعلمانية في فرنسا، أستريد بريان وجان جوريس، يخشيان، بالدرجة نفسها، من السلطة الكهنوتية والاستبداد العلمانوي.
ينقض قرار مجلس الدولة الفرنسي، إعلاء مفهوم الحريات الأساسية، كل المقارنات التي انهمك فيها بعض المثقفين العرب، بخصوص تعامل دول إسلامية مستبدّة، مع حقوق من لا يلتزم بقواعدها المتشدّدة. هو في رقابته على احترام الدستور لا يأخذ بالاعتبار ميول زيد أو رغبات عمرو.