10 نوفمبر 2024
دهشة غير مبرّرة
شكلّ الانعطاف النسبي والواضح في موقف تركيا الرسمي لمعالجة الملف السوري مفاجأةً لبعض المراقبين والمتابعين، خصوصاً من السوريين، والذين كانوا قد وصلوا، في تحليلاتهم، "الاستراتيجية" إلى مرحلةٍ نقلوا فيها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من موقعه رئيس دولة إلى مكانةٍ مقدّسةٍ يكاد الاقتراب منها، ولو بنقدٍ حذر، كالمسّ بالذات الإلهية. وكاد بعضهم يرسم سيناريوهات "تحرير" المدنيين السوريين من مأساتهم على أيدي السلطان الجديد.
هذا التعلّق العاطفي أحياناً، والإيديولوجي غالباً، يمكن أن يُعتبر طبيعياً ومفهوماً ممن فقد كل أملٍ بالتفاتةٍ ما، إنسانيةٍ أم سياسية، من مجتمع سموّه دولياً، وهو يقف صامتاً متفرجاً وغير آبهٍ بمقتلةٍ سوريةٍ تركض يومياً بين من تبقى من أحياء، حاصدةً ما راق لها من أرواح مدنية أساساً. وهو أيضاً مفهومٌ بالنسبة لما يُقارب الملايين الثلاثة من اللاجئين/ الضيوف السوريين في تركيا الذين شعروا بدفء الاستقبال الرسمي والشعبي التركي، وذلك على الأقل في بدايات محنتهم. وقد تحسّب كثيرون منهم، عن حقٍّ ومشروعية، في أثناء الانقلاب العسكري الفاشل، مما يمكن أن يقع عليهم من ظلمٍ وارتداداتٍ، إن انتصر العسكر، أو من يلوذ بهم. كما أن "العشم" بديمقراطيةٍ محافظةٍ كان يملأ قلوب المحرومين من الديمقراطية ومن الإسلامية المتنوّرة، فوجدوا مزيجاً، ربما مغشوشاً، من كليهما في النموذج التركي بمرحلته الأردوغانية الأولى.
عندما توجّه أحد الباحثين في العلوم السياسية، غير المنخرطين في العملية السياسية، إلى بعض الجهابذة من بعض المعارضة السياسية السورية، بأن ينفتحوا على المجتمع المستضيف، وعلى مكوناته السياسية والنقابية، بمختلف أشكالها في المشهد التركي، تم رميه بنظرات الاستخفاف والتحسّر على "جهله" السياسي و"سذاجته" التكتيكية. وكان الجواب من البساطة بأن قيل له "إن فعلنا، سيغضب أصدقاؤنا في أنقرة". فما كان من هذا "الساذج" تكتيكياً و"الجاهل" سياسياً إلا أن حمل هذا التحسّب إلى أحد المقربين من قصر السلطان، والذي قال له فوراً "أرجوكم أن افعلوا"، فسيرى الله حسن تصرّفكم ويجزيكم الخير عليه، وستُنزلون عبئاً ثقيلاً من على أكتافنا لاستمرار الأحزاب اليسارية والنقابات العمالية بالتلويح أمام الحكومة بالملف السوري سلباً وانتقاداً. فعاد "ساذجُنا وجاهلنا" ناقلاً رسالة المُقرّب، فأتاه ردٌ استهزائي بامتياز تمحور حول ضحالة معرفته بالألاعيب والمماحكات. وقيل له إنك لا تفهم، ومن الأفضل لك أن تحصر اهتماماتك بكتبك المستعصية على الفهم، ونظرياتك في العلاقات الدولية ومصالح الدول.
أساءت "النخبة" السياسية السورية قراءة المشهد التركي الداخلي والإقليمي، بتعقيداته المتراكمة وبأبعاده المترامية. كما ارتمى أصحاب الأيديولوجيات المغلقة في حضن الأوهام، ونسجوا
الأحلام البعيدة عن الواقع والمنطق. ومن المُقلق أن يعمد هؤلاء أنفسهم إلى عكس مواقفهم نتيجة التحوّل الجزئي حالياً، والمنظور له بأن يكون أكثر وضوحاً في القريب، للسياسة التركية الإقليمية من حيث تحالفاتها المستعادة مع روسيا وإسرائيل وتوجهها شرقاً، إثر الإجحاف الغربي بخصوصها في إدارة الملف السوري، كما في ملف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. أضحى الموضوع الأمني الشغل الشاغل، كما التنمية الاقتصادية بعد انحدار خطير في مؤشراتها. وما السبيل الى تحقيق ذلك، في ظل الإهمال الغربي، إلا في العودة الحذرة إلى أحضان الدب الروسي والتوجه شرقاً، مروراً بإيران، على الأقل مرحلياً، ريثما يصحو الغرب، ويعود عن ابتعاده الحذر عن أهم حلفائه الاستراتيجيين تاريخياً في المنطقة.
الصديق التركي المُقرّب، وفي إجابة على تساؤلي عن "سر" الانعطاف الذي برز، بداية في تصريحات رئيس الوزراء، على الرغم من تصحيحه، وتأكد أكثر إبّان زيارة بوتين إسطنبول منذ أيام، قال مستغرباً: "هل تعرف طريقاً مستقيمة إلى ما لا نهاية؟ هل لديك شهادة سياقة؟ هل لديك سيارة؟ الطريق، يا عزيزي، في مرحلةٍ فيها منعطفاتٌ متنوعة. كما وأن فيها إمكانية للعودة إلى نقطة الانطلاق. في الطرق المحلية، هذه العودة سهلة، على الرغم من خطورتها. يكفي أن تقف قليلا على اليمين، بانتظار فراغ المسرب، لتلتف راجعاً من حيث أتيت. أما في الطرق السريعة، فلديك تحويلاتٌ مدروسةٌ، يمكنك من خلال سلوكها أن تلتف إلى الوراء. ولكن، من خلال مسارٍ طويل يجتاز الطريق من الأعلى باتجاهيه، ويعود بك إلى طريق العودة أو الرجوع أو التراجع. أنصحك، يا صديقي، أن تجدّد شهادتك، وأن تعمد إلى التعوّد على السياقة من جديد".
لا يجدي انتقاد التحوّل التركي المرحلي، إلا على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، لتفريغ شحنات الإحباط. في المقابل، على "خاصتنا أن يعلموا عامتنا" بأن ما حكّ جلدك مثل ظفرك، وانتظار الفرج من الآخرين ليس إلا إمعاناً في الضعف. وبعيداً عن نظريات المؤامرة والتآمر، تبقى تركيا جاراً مهماً لسورية، ولها مصالح متشابكة مع مختلف المكوّنات السورية، تصل في بعض أنواعها إلى العداء والمواجهة. وتُشكّل القضية الكردية التركية، بأبعادها السورية، أولوية لن يتم تجاوزها قبل حل القضية تركياً بشكل سلمي وعادل، ما سينعكس على الذراع السوري لحزب العمال الكردي، ويجعله إما جزءاً من الحل التركي الكردي، أو فاعلاً في إطار المشروع السوري الوطني، القائم على جميع المكونات وحقوقها المشروعة.
بعد انكشاف جزء من الأوراق، فلا المديح الأعمى أو الانتقاد الأعشى لسياسات أردوغان ينفع في المشهد السوري. وكان محقّاً من قال يوماً للمعارضة السورية: لا تضعوا بيضكم في سلة واحدة خشية الوقوع والانكسار. .. هل من استمع إليه؟
هذا التعلّق العاطفي أحياناً، والإيديولوجي غالباً، يمكن أن يُعتبر طبيعياً ومفهوماً ممن فقد كل أملٍ بالتفاتةٍ ما، إنسانيةٍ أم سياسية، من مجتمع سموّه دولياً، وهو يقف صامتاً متفرجاً وغير آبهٍ بمقتلةٍ سوريةٍ تركض يومياً بين من تبقى من أحياء، حاصدةً ما راق لها من أرواح مدنية أساساً. وهو أيضاً مفهومٌ بالنسبة لما يُقارب الملايين الثلاثة من اللاجئين/ الضيوف السوريين في تركيا الذين شعروا بدفء الاستقبال الرسمي والشعبي التركي، وذلك على الأقل في بدايات محنتهم. وقد تحسّب كثيرون منهم، عن حقٍّ ومشروعية، في أثناء الانقلاب العسكري الفاشل، مما يمكن أن يقع عليهم من ظلمٍ وارتداداتٍ، إن انتصر العسكر، أو من يلوذ بهم. كما أن "العشم" بديمقراطيةٍ محافظةٍ كان يملأ قلوب المحرومين من الديمقراطية ومن الإسلامية المتنوّرة، فوجدوا مزيجاً، ربما مغشوشاً، من كليهما في النموذج التركي بمرحلته الأردوغانية الأولى.
عندما توجّه أحد الباحثين في العلوم السياسية، غير المنخرطين في العملية السياسية، إلى بعض الجهابذة من بعض المعارضة السياسية السورية، بأن ينفتحوا على المجتمع المستضيف، وعلى مكوناته السياسية والنقابية، بمختلف أشكالها في المشهد التركي، تم رميه بنظرات الاستخفاف والتحسّر على "جهله" السياسي و"سذاجته" التكتيكية. وكان الجواب من البساطة بأن قيل له "إن فعلنا، سيغضب أصدقاؤنا في أنقرة". فما كان من هذا "الساذج" تكتيكياً و"الجاهل" سياسياً إلا أن حمل هذا التحسّب إلى أحد المقربين من قصر السلطان، والذي قال له فوراً "أرجوكم أن افعلوا"، فسيرى الله حسن تصرّفكم ويجزيكم الخير عليه، وستُنزلون عبئاً ثقيلاً من على أكتافنا لاستمرار الأحزاب اليسارية والنقابات العمالية بالتلويح أمام الحكومة بالملف السوري سلباً وانتقاداً. فعاد "ساذجُنا وجاهلنا" ناقلاً رسالة المُقرّب، فأتاه ردٌ استهزائي بامتياز تمحور حول ضحالة معرفته بالألاعيب والمماحكات. وقيل له إنك لا تفهم، ومن الأفضل لك أن تحصر اهتماماتك بكتبك المستعصية على الفهم، ونظرياتك في العلاقات الدولية ومصالح الدول.
أساءت "النخبة" السياسية السورية قراءة المشهد التركي الداخلي والإقليمي، بتعقيداته المتراكمة وبأبعاده المترامية. كما ارتمى أصحاب الأيديولوجيات المغلقة في حضن الأوهام، ونسجوا
الصديق التركي المُقرّب، وفي إجابة على تساؤلي عن "سر" الانعطاف الذي برز، بداية في تصريحات رئيس الوزراء، على الرغم من تصحيحه، وتأكد أكثر إبّان زيارة بوتين إسطنبول منذ أيام، قال مستغرباً: "هل تعرف طريقاً مستقيمة إلى ما لا نهاية؟ هل لديك شهادة سياقة؟ هل لديك سيارة؟ الطريق، يا عزيزي، في مرحلةٍ فيها منعطفاتٌ متنوعة. كما وأن فيها إمكانية للعودة إلى نقطة الانطلاق. في الطرق المحلية، هذه العودة سهلة، على الرغم من خطورتها. يكفي أن تقف قليلا على اليمين، بانتظار فراغ المسرب، لتلتف راجعاً من حيث أتيت. أما في الطرق السريعة، فلديك تحويلاتٌ مدروسةٌ، يمكنك من خلال سلوكها أن تلتف إلى الوراء. ولكن، من خلال مسارٍ طويل يجتاز الطريق من الأعلى باتجاهيه، ويعود بك إلى طريق العودة أو الرجوع أو التراجع. أنصحك، يا صديقي، أن تجدّد شهادتك، وأن تعمد إلى التعوّد على السياقة من جديد".
لا يجدي انتقاد التحوّل التركي المرحلي، إلا على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، لتفريغ شحنات الإحباط. في المقابل، على "خاصتنا أن يعلموا عامتنا" بأن ما حكّ جلدك مثل ظفرك، وانتظار الفرج من الآخرين ليس إلا إمعاناً في الضعف. وبعيداً عن نظريات المؤامرة والتآمر، تبقى تركيا جاراً مهماً لسورية، ولها مصالح متشابكة مع مختلف المكوّنات السورية، تصل في بعض أنواعها إلى العداء والمواجهة. وتُشكّل القضية الكردية التركية، بأبعادها السورية، أولوية لن يتم تجاوزها قبل حل القضية تركياً بشكل سلمي وعادل، ما سينعكس على الذراع السوري لحزب العمال الكردي، ويجعله إما جزءاً من الحل التركي الكردي، أو فاعلاً في إطار المشروع السوري الوطني، القائم على جميع المكونات وحقوقها المشروعة.
بعد انكشاف جزء من الأوراق، فلا المديح الأعمى أو الانتقاد الأعشى لسياسات أردوغان ينفع في المشهد السوري. وكان محقّاً من قال يوماً للمعارضة السورية: لا تضعوا بيضكم في سلة واحدة خشية الوقوع والانكسار. .. هل من استمع إليه؟